الشعراء العرب: لا غاوين يَتبعونهم


ثمانمئة شخصٍ تقريبًا حَضَروا أمسيةً شعريةً أقيمتْ في نيسان 2007 في نيويورك لبعض شعراء أميركا الجدد. نعم، ثمانمئة شخص! ومع هذا، تعلو أصواتُ شعرائها اليوم لربط الشعر الأميركي بالحياة الأميركية، وإدخالِ اللغة الشعرية إلى اللغة اليومية، وتزداد المنتدياتُ والجمعياتُ الشعريةُ سنةً بعد سنة. أما الشعر العربي فما يزال مشغولاً بنزاعاته الداخلية التي لم تتغيّر مَحاورُها منذ أكثر من خمسين سنة، ويزداد هو وشعراؤه ابتعادًا وعزلةً عن المتلقّي وعن الحياة العربية، ويقلّ تأثيرُه أو ينعدم في الإنسان العربي، ابتداءً بمضامينه الإنسانية وليس انتهاءً بلغته.
طوال العقود الأخيرة الماضية، ساهم الشعراءُ والنقّادُ العرب، والمنابرُ الإعلامية، يدًا بيدٍ مع الأنظمة الديكتاتورية، والعولمة، في إقصاء الشعر العربي عن الحياة العربية، إراديّاً أو لاإراديّاً، وبطرقٍ ووسائلَ عدّةٍ لا تقلّ قسوةً وفعّاليةً. وسنقوم في ما يلي باستعراض أدوارهم (الشرّيرة) هذه، بعد إيجازِ دورَي العامليْن الآخريْن ـ أي الأنظمة المذكورة والعولمة.


الأنظمة
إنّ الحروب المنظَّمة التي شنّتها الأنظمةُ على الثقافة والمثقفين المناوئين لها على امتداد نصف قرن، بالإضافة إلى ترويجها لمثقّفي السلطة الذين لا يجيدون فنَّ الكتابة أكثرَ مما يجيدون فنَّ غسيل سيّارات رجالاتها، خَلقتْ أزمةَ ثقافةٍ في العالم العربي، وجوّاً ملائمًا لنفور الإنسان العربي من الكُتّاب الرديئين والكِتاب الرديء. كما أنّ الحصار الذي ضربتْه السلطاتُ على المثقفين، بمنع سفر بعضِهم خارج أقطارهم، أو زجِّ بعضهم الآخر في السجون، قد ضاعف من قسوة الحدود السياسية بين البلدان ومن بُعدِ المسافات الجغرافية بينها. إلى ذلك يضاف حظرُ طباعة بعض الكتب، أو حظرُ تداول أخرى في بقية البلدان، ومنعُ دخول بعض المجلاّت الثقافية إلى بعض الدول (كمجلة الناقد مثلاً، وكان ذلك سببًا في توقّفها). فأدّى ذلك كلُّه إلى عزل الشعراء بعضِهم عن بعض وعن قرّائهم، وإلى إضعاف (أو إلغاء) تأثيرهم في المجتمع العربي. ولا ننسى أيضًا دورَ المناهج الدراسية الحكومية التي تربّي الناشئين على كراهية الشعر بسبب جفاف الموادّ الأدبية التي تقدَّم اليهم، أو تُربّي لاوعيَهم على أنّ الشعر حالةٌ تراثيةٌ ابتدأتْ بامرئ القيس وانتهت في أحسن الأحوال عند السيّاب أو نزار قبّاني... ومن دون أن يفوتَ تلك المناهجَ الإلماعُ إلى أنّ الشعر الحديث في الغالب مُروقٌ، وعصيانٌ، وخروجٌ على الأمة، وموالاةٌ للإمبريالية العالمية، أو ترويجٌ للإباحية والزندقة، كما هو الحال في بعض الدول.


العولمة
قَدّمت العولمةُ أدواتِ الترفيه الثقافي الاستهلاكي الذي يُعنى بالثقافة البصرية السطحية في الدرجة الأولى، ويبتعد عن المضامين الإنسانية، ويحاول محوَ الثقافات الصغيرة على حساب الثقافة الشمولية الجديدة والطاغية. وفيما تقدِّم العولمةُ ذلك، انحسرتْ شيئًا فشيئًا الأدواتُ الثقافيةُ التقليدية، وعلى رأسها الشعرُ، حتى يكاد أن يقتصر استعمالهُا على الشعراء أنفسهم وعلى القلّة القليلة من المهتمّين بالشأن الثقافي.
أما الشبكة الالكترونية التي دخلتْ كلَّ منزل، فما زال الشعرُ العربي فيها مقتصرًا على بعض المواقع والمنتديات المبعثرة. وغالبيةُ هذه تفتقر إلى التنظيم والتنسيق فيما بينها، أو إلى الموضوعية في اختيار الموادّ. وما زالت عاجزةً عن خلق تياراتٍ شعريةٍ معينة، أو تكريسِ ظاهرةٍ شعريةٍ تعيد إلى الشعر رونقَه بوصفه فنّاً ضروريّاً لحياة الإنسان العربي، لا ترفًا ينحصر بالشعراء الذين ضاقت بهم وسائلُ النشر الورقية وهَجَرَتهم الجماهيرُ فوجدوا في الشبكة الإلكترونية مساحةً شاسعةً للكتابة... ولكنْ من دون أن يقرأها أحدٌ بالضرورة!


الشعراء والنقّاد
أما الشعراء الذين يَتْبعهم الغاوون، فلم يعد يَتْبعهم أحدٌ، وأصبحوا هم الغاوين أنفسَهم: يسيرون على غير هدًى هنا وهناك، بحثًا عن منبرٍ ثقافيّ يَعْتلونه، أو دارِ نشرٍ تُوافق على نشر كتاباتهم (ولو على حسابهم الشخصي)، أو شخصٍ واحدٍ أحيانًا يستمع إليهم. كثيرًا ما يَصْطدمون في الحياة الواقعية بجُملٍ جارحةٍ مثل: "أنا لا أحبّ من الشعر إلاّ قديمَه"؛ أو: "عفوًا، أنا لا أفهم الشعرَ الحديث"؛ أو: "ما هذه الخزعبلات التي تكتبونها؟ أما زال هناك مَن يهتمّ بهذه الأشياء؟!"
والحقّ أنّ مبالغةَ بعض الشعراء في استخدام الرموز أو الصور التجريدية ـ خوفًا من السلطات أو لنقصٍ في الموهبة حاولوا تعويضَه بجعل نصوصهم عبارةً عن شفرات لا حلّ لها ـ لعبتْ دورًا أساسًا في إغلاق النصوص إغلاقًا تامّاً في وجه القرّاء، الأمرُ الذي جعل الغموضَ هو السمةَ الرئيسةَ التي أُشيعتْ عن الشعر العربي الحديث، وَحَدا بالكثيرين إلى اتّقاء شرِّ قراءته. وفي المقابل، سادت موجةٌ من شعراء "الشعر الشفوي،" الذي لحق به الكثيرُ من اللاشعر القائم على الوصف المباشر لنثريّات الحياة، من دون امتلاكه الحدَّ الأدنى من جوهر الجماليّة الشعرية.
كما أَنتجت الحركاتُ الثوريةُ والفكريةُ العربيةُ بين الخمسينيات والسبعينيات أجيالاً من الشعراء والمثقفين الذين تسربلوا بأردية التقشّف والتسكّع على أرصفة الليل الماطرة، وما برحوا يقترضون المالَ ممّن حَوْلهم لشراء الطعام والشراب (حتى لم يعد أحدٌ يقْرضهم لعدم سدادهم إيّاه)، ولم يَتْركوا منزلاً إلاّ ناموا فيه لأن لا مأوى لهم، وتبنّوا بعضَ القيم "الغربية" بصورةٍ خاطئةٍ حتى أصبحوا مثالاً للإباحية. وتحوّلتْ صورةُ الشاعر العربي، الذي كان في يومٍ من الأيام أشبهَ بنبيّ، إلى صورة ذلك الصعلوكِ المفلسِ المتشرِّدِ الذي نَبَذَه الأقربون ونَفَرَ منه الأبعدون.
وعلى امتداد نصف قرن، لم يتزحزحْ جدلُ غالبية هؤلاء الشعراء والمثقفين عن المواضيع ذاتها. فما زلنا، كلّما دخلْنا على مجموعةٍ منهم، نستمع إلى الجدل عينه: حول دور الشعر، وشرعيةِ قصيدة النثر، وأيّهما أكثرُ حداثةً (هي أمْ قصيدة التفعيلة)، وحول القصيدة اليومية، وحول محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس وإيف بونفوا وبودلير وسوزان برنار وغيرِها من الأسماء التي تكرّرتْ حتى حَسِبْنا أنّ الشعر توقَّفَ عندها... ناهيكم طبعًا بمواضيع النميمة المعتادة حول "الشعراء الأعداء" أيّاً كانوا، لضغينةٍ أو حسدٍ يحملهما أحدُهم على الآخر، أو بسبب العصبية الثقافية المتطرّفة. ولعلّ آخرَ ما يهمّ الشاعرَ منهم هو بذلُ الجهد لكتابة نصٍّ إبداعيٍّ جديدٍ فعلاً، أو لتعلُّمِ بعض قواعد النحو الأساسية التي تُعْوز بعضَهم، بل لقراءة ديوانٍ لأحد الشعراء قبل أن ينهالَ عليه بالمدح أو الذمّ لهذا السبب أو ذاك!
كما أنّ شيوعَ قصيدة النثر، كما هو معروف، أدّى إلى الاستسهال، وجَعَلَ كلَّ مَن هَبَّ ودَبَّ جريئًا على امتشاق قلمه وكتابة قصيدة، من دون أن يكون بالضرورة ملمّاً بأضعف الإيمان الشعري، وربما لم يقرأْ كتابًا إلى نهايته في حياته. لستُ بالطبع ضدّ قصيدة النثر، غير أنني أوصِّف ظاهرةً كان لا مناص من نشوئها، تمامًا كالتأثير الجانبي المصاحِب لأيّ دواءٍ فعّال؛ وهناك مقولةٌ في الطبّ مفادُها أنّ الدواء الذي لا ثأثيرات جانبية له لا تأثيرات له على الإطلاق.
أما النقّاد ـ على ندرتهم ـ فأنواع. منهم المنحازون إلى ما يوافق ميولَهم الشعريةَ والفكرية. ومنهم مَن يخشى إنْ كَتَبَ عن زيْدٍ ألاّ يَنْشر له عمرو في "صفحته" الثقافية. ومنهم مَن كَتب عن كتابِ زيْد كي يَكتب زيْدٌ عن كتابه. ومنهم مَن اعتزل النقدَ ولم يرَ ما يشجِّعه على الاستمرار في ظلّ حركةٍ شعريةٍ مضطربة، وحالةٍ ثقافيةٍ راكدة، ولكثرةِ ما رأى من الرداءة الشعرية المنشورة هنا وهناك لأسبابٍ سأذكرها تاليًا. ومنهم مَن اقتصرتْ دراساتُه النقديةُ على الأصوات الشعرية الكبيرة، التي أصيبت بالتخمة من كثرةِ ما كُتب عنها، وذلك ليقي نفسَه مشقّةَ البحث عن ناشرٍ يجازف بنشر دراسةٍ نقديةٍ عن صوتٍ لم يَسمعْ به أحد. أما "الموضوعية" فهي قد تكون مصطلحًا لم تسمعْ به الأغلبية.


المنابر الإعلامية
إنّ صورة الواقع الإعلامي الثقافي العربي اليوم ما هي إلاّ استمرارٌ ـ معدَّلٌ قليلاً ـ لذلك الواقع في العقود الأخيرة الماضية. وإنّ المنابر الثقافية المقروءة والمسموعة والمرئيّة كانت وما تزال منقسمةً إلى نوعين رئيسين. يشمل الأول المنابرَ الحكوميةَ، التي جَمعتْ مِن حولها مَن قَنِعوا بفتات المناصب والرواتب أو المنح الحكومية، من دون أن يكونوا بالضرورة على علاقةٍ وثيقةٍ بالأدب. فتقوقعتْ تلك المؤسساتُ على نفسها، وتحجّرتْ، حتى أصبحتْ في حاجة ماسّة إلى علماءِ أركيولوجيا قادرين على نبش هذا الركام من الكتب والصحف والأمسيات والمهرجانات التي ما دخلها عابرٌ مصادفةً إلاّ ظنّ نفسَه في متحفٍ للضجيج. أما النوع الثاني فقد شمل بعضَ المنابر الورقية التي تزعّمها بعضُ الشعراء الذين انحازوا إلى مَن يشابهونهم في الميول والأهواء الشعرية والفكرية والسياسية، فأدّى ذلك لاحقًا إلى المحسوبيات والتبعيات، وأصبح كلُّ شاعر تقريبًا محسوبًا على زمرةٍ ما أو صحيفةٍ ما. وهكذا خرجت الأمورُ عن معايير النشر الراقية التي تتوخّى جودةَ النصّ والموهبة، وأصبحتْ هنالك معاييرُ مغايرةٌ تعنى بنوع النصّ (أموزونٌ هو أمْ نثريّ؟)، أو باسم الكاتب (أمعروفٌ هو أمْ مغمور؟)، أو بصلة المحرِّر أو النظام الحاكم بالكاتب (أصديقٌ هو أمْ عدوّ؟). وهي معاييرُ لم تخلُ في كثير من الأحيان من النفَس الديكتاتوري الذي تَعلّمه متزعِّمو تلك المنابر من أنظمتهم في إقصاء الآخر أو إلغائه وفي إنشاء التحالفات والائتلافات (التي غالبًا ما تتمركز حول مَن اعتلَوْا سدّةَ رئاسة التحرير في جريدةٍ أو مجلةٍ ثقافيةٍ ما، أو من نُصِّبوا على عرشِ منبرٍ ثقافيّ ما أو اتحادِ كتّابٍ ما، إمّا بانقلابٍ ثقافي أو بالاستعانة بقوات حكومية حليفة). وهذا كلُّه بالطبع أدّى إلى ظهور (أو إظهار) نصوصٍ رديئةٍ ساهمتْ في نفور القارئ العربي من الشعر شيئًا فشيئًا، وعلى امتداد سنواتِ مطالعته لما يُنشر في الصفحات الثقافية.


إذن؟
إذن، فالأزمة ليست أزمةَ موهبة كما صرّح محمود درويش مرةً؛ فالموهوبون كانوا وما زالوا موجودين، ولكنهم قليلون، كما هو الحال دائمًا. بل إنّ الأزمة هي أزمةُ الواقع الشعري عمومًا: بدءًا بالأنظمة، ومرورًا بالنقّاد والناشرين، وانتهاءً بالشعراء أنفسهم. ومن المؤسف حقّاً أنّكَ عندما تسأل إنسانًا عربيّاً أنْ يَذكر اسمَ شاعرٍ معاصر، فإنّ أصغرَ مَن يذكرهم سنّاً هو نزار قبّاني أو السيّاب، وربما يذكر أدونيس إنْ كان مطّلعًا قليلاً، أو محمود درويش إنْ كان يستمع إلى مارسيل خليفة أو ماجدة الرومي. إنّ هذه الحالة من فكّ الارتباط بين الشعر العربي والإنسان العربي أدّت إلى سحق أسماءٍ أو أجيالٍ شعريةٍ بكاملها، وإلى تغييب مواهبَ كبيرةٍ ورائعةٍ، خصوصًا في أواخر السبعينيات والثمانينيات والتسعينات... والدورُ على مَن تلاهم.
وأنا، إذ أَصِفُ في مقالي هذا النصفَ الفارغَ من الكأس، فلكي أحمِّلَ الشعراءَ بالدرجة الأولى (ولا أستثني نفسي) نصفَ المسؤولية في ما يحصل، ولكي ألتمسَ منهم وضعَ أصابعهم الرقيقةِ والفائقةِ الجمال على مواضع الألم الشعري. فلعلّنا بذلك نصل إلى تشخيصٍ دقيقٍ لحالةٍ ليست عصيّةً على العلاج... وخصوصًا بعد توفّر التجربة التي مرّت في العقود الماضية، وبعد استحداث وسائلَ جديدةٍ للإعلام والاتصال والنشر أدّت إلى قطع الأسلاك الشائكة بينهم وفتحت الأبوابَ أمامهم لخياراتٍ جديدةٍ في الكتابة والنشر والاطّلاع على حدّ سواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمام التلاوي - المقالة منشورة في مجلة الآداب - 9 تموز 2008

في الرحيل الكبير نحبّكَ أكثر




يذهب محمود درويش وحيداً هذه المرة. ربما لم يعد لديه الوقت ليأخذنا معه إلى الموت كما فعل في جداريته, وربما اعتقد أن المكان الذي يذهب إليه أبعد من طاقتنا على صحبته. لا ندري إن كان قد أخذ ما يلزمه كاملا: ثيابه, وكتبه, وفرشاة الأسنان, وماكنة الحلاقة.. لكن الأكيد أنه ذهب مكتملاً بإبداعه, ومكملا لتجربته الشعرية الناصعة في تاريخ الشعر العربي.
لقد ذهب لاعب النرد لكي يلعب هذه المرة على طريقته مع الموت, بلا شهود ولا جماهير, وإذا كان الموت قد انتظره ليصير ما يريده, فقد أطال محمود على الموت انتظاره كثيرا, هذا لأن الشاعر قد صار منذ زمن طويل ما يريده, أو أنه على الأقل قد صار ما نريده نحن. وهو في مطلق الأحوال قد رمى نرده بمهارة وحرك أحجاره بذكاء شديد, وهزم الموت من قبل أن يصل إليه.
لم يجرؤ الموت طيلة سبعة وستين عاماً على ملاقاته هنا بين أهله ومحبيه, ولهذا كمُنَ له هناك, في أمريكا, واثقاً من جسارة الشاعر على ملاقاته أينما كان. وبالرغم من أن محموداً ذهب إليه وعانقه بشجاعة الشعراء, إلا أن الموت لهشاشته, لم يصدق ذلك في بادئ الأمر, فلم يكن غريبا أن يتردد مرتين في إخبارنا بهذه الواقعة العظيمة.
لقد ذهبت الذريعة الكبرى لشعر التفعيلة, التي يشهرها أنصاره في وجه الكلاسيكيين والنثريين على حد سواء, ذهب الدليل الأكبر على قدرة التفعيلة على تجديد نفسها وابتكار مساحات ابداعية لا تنتهي, تماما كما ذهبت ذريعة النثر الماغوطية العظيمة, وذريعة عمود الشعر الجواهرية. وهكذا ولى بموته بعد نزارٍ عصرُ الشعراء النجوم الذين إذا أقيمت لهم أمسية, أغلِقت الطرقات والساحات, وجلس عشاق الشعر على أرصفة الإصغاء الحميم.
ذهب محمود أخيراً, وتنفس حساده الصعداء, وصار بوسعهم أن يرجموا كلامه بالكراهية, وطريقته الشعرية بالنضوب, وصار بوسع عاشقاته أن يدّعين نسب ولدانهنّ إليه, وصار بوسع القصيدة أن تتحرر بمطلق جمالها من هيبة حضوره.
لم نعرف في العربية شاعراً كان لتجربته هذا التصاعد الدراماتيكي في التطور والإبداع الجمالي, منذ ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" الذي شابته بعض الوقفات العروضية, حتى جداريته التي مثلت واحدة من قمم الإبداع الشعري المعاصر, ولم نشهد لدى شاعر آخر مثل هذه القدرة العجيبة على الانقلاب على الذات الفنية والشعرية, ولعل عزاءنا في رحيله يتمثل اليوم في مجموعتيه الأخيرتين اللتين اتضح بهما أن محموداً قد قال كل ما يريد قوله ابداعيا واستخدم أدواته الفنية كلها وقدم منجزه الشعري مكتملا بجداريته, وحسبه بذلك منجزاً قدم للشعر العربي أجمل ما يمكن تقديمه من شاعر كبير.
التقيت بمحمود مرتين, وصورتي معه معلقة أبداً في مكتبتي, وديواني "شعرائيل" لم يزل على طاولة مكتبه كما أخبرني صديقه الشاعر طاهر رياض, الذي رأى الديوان هناك في زيارته الأخيرة له في عمّان, إنما فاته أن يسأله عن رأيه به, لكنه وعدني أن يفعل حال عودته من أمريكا. لا أدري بالضبط إن كان محمود قد قرأه, أم أنه وضعه في نية قراءته ولم يفعل بعد, هل قرأه كاملا أم لم يكمله لسبب ما, هل أعجبه, أم لا, هل لديه ما يقوله عن تجربتي, أم لا, لكن ما أعرفه تماما, أنني في المرة الأولى التي انتظرت بها عودته, قرر أن لا يعود.
أنا زفرة العربي الأخيرة, هكذا قال في كواكبه الأحد عشر, وقال فيها أيضا: في الرحيل الكبير أحبّكِ أكثر. وها هو الآن يطلق زفرته الأخيرة, ويرحل رحيله الكبير, لا لنحزن, ولا لنذرف المراثي من ورائه, إنما لنهتف: محمود درويش.. في الرحيل الكبير نحبك أكثر.

ــــــــــــــ


تمام التلاوي - جريدة تشرين السورية


قراءة في ديوان ( العودة ) للشاعرة مرام المصري



ولادة بنت المستكفي تعود إلى اسبانيا

تمام تلاوي

بلا تيجان وبلا صولجان تعود ولادة بنت المستكفي اليوم إلى اسبانيا متجسدة في الشاعرة السورية مرام المصري. وهي واحدة من الشاعرات السوريات المعروفات اللواتي كن في طليعة كاتبات قصيدة النثر السورية منذ أوائل الثمانينات, ونستطيع أن نرى أثر تجربتها في الكثيرات من شاعرات قصيدة النثر السوريات تحديدا, وهي ربما كانت الشاعرة السورية الأولى التي كتبت القصيدة الحسية بفنية عالية وشفافية خالية تماما من الابتذال اللفظي الذي مارسته كثير من الشاعرات رغبة منهن ربما في لفت نظر القارئ إلى شعرهن إنما بوسيلة غير شعرية. صدر لها في بداية الثمانينات مجموعة مشتركة مع منذر مصري ومحمد سيدة بعنوان ( أنذرتك بحمامة بيضاء ) ثم سافرت إلى فرنسا لتصدر بعد سنوات وبالتحديد عام 1997 ديوانها الثاني (كرزة حمراء على بلاط أبيض ) تبعه ديوان ( أنظر إليك ) عام 2000 . وقد لاقت هذه الدواوين إعجابا عاليا من مختلف الجهات فحصدت الجوائز وترجمت إلى أكثر من سبع لغات. أما ( العودة ) فهو عنوان مجموعتها الشعرية الرابعة الصادرة باللغتين معا العربية وترجمتها الاسبانية عن دار إسكريتو الاسبانية. في هذا الكتاب الذي يتكون من خمس عشرة قصيدة, تختبر مرام مصري مقدرتها الشعرية على كتابة القصيدة الطويلة, هي التي عودتنا في مجموعاتها السابقة على القصائد القصيرة التي لا تتجاوز أطولها عشرين سطرا. لكنها لا تكتفي بهذا الاختلاف وحسب إنما تتجاوزه إلى شيء آخر يتمثل في النبرة العالية للجملة الشعرية الذي يفاجأنا منذ مطلع النص الأول:
أنا ملكة هذا المكان
أعود إليه بدون تيجان
سلطانة بدون صولجان
جارية بإكليل من ياسمين دمشق
أرقص وأغني..
بهذا المطلع القوي تسحب قارئها إلى قلب المعنى مباشرة, وتدخله إلى حمى الحالة الشعرية للنص:
جسد الشمس أنا
حارة كدمع رجل فقد مملكته
كدم الولادة
حارة أنا
كالشهوة الأولى
أرقص وأغني..
الأمر الجديد الآخر الذي يلحظه من قرأ الأعمال السابقة للشاعرة هو اعتمادها هنا تقنية التكرار اللفظي التي استعملتها في أغلب قصائد هذه المجموعة, ولعل القصيدة التي برزت بها هذه التقنية بشكل أكبر من غيرها هي قصيدة ( مدن ) التي تتكون من ستة عشرة سطرا, مرت بها كلمة ( مدن ) اثنتا عشرة مرة, وكلمة ( مدينة ) ثلاث مرات, لتؤكد ربما عبر حالة من التكرار اللفظي متصاعد النبرة على حتمية وقوة علاقتها بالمدن الاسبانية المختلفة التي غنتها في ديوانها.
القصائد في مجملها تعبر عن حالة عودة إلى المدن الإسبانية المختلفة غرناطة, قرطبة, مرسية, والأخريات, لكن هذه العودة ليست حيادية أبداً, فالشاعرة ( السورية ) تستغل فنيا منبت ولادة بنت المستكفي الأموي لربط دمشق بهذه المدن جميعا:
دمشق أعارتني شفاهها
ولسانها وحلقها وصدرها
لكي تناجيكن
أعارتني خلخالها لكي ترقص لكن
حملتني ورودها لتُزرع في جنائنكن
بهذا المعنى تعود ولادة إلى اسبانيا لكن مع فارق كبير هذه المرة, فهي تعود امرأة محملة بالأسى ومجردة من التاج, تعود لتتقلب في سريرها تناجي الأغطية والشراشف والذكريات والغرف ومفردات الحياة المختلفة ولا أحد يبالي. لم تعد ولادة تلك المرأة التي تصلح للمعالي, كما كان مطرزا بخيوط الذهب على جانبي ثوبها:
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكّنُ عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها
كما أنها لم تعد تلك المرأة التي يتنافس عليها ابن زيدون مع آخرين من وزراء الدولة. إنما عادت بجسد مر عليه لصوص الأعوام وببطن تكورت فيه الحياة. عادت امرأة معاصرة عادية ومغلوبة تبحث عن الحرية التي لم تذق طعمها يوما, وما فتئت تسأل عنها:
هل هناك طريقة استعمال لمن هم مثلي
من قرؤوا عنها
من سمعوا بها
من جاعوا
من بردوا
من ضُربوا
من خسروا لأجلها..
عادت امرأة لا سرير لها سوى أرصفة الأمل تطلب العزاء والحياة من فرط الأسى:
امرأة كل الرجال أنا ولا رجل لي
امرأة كل البلاد أنا ولا بلد لي
امرأة اللذات والألم
أعود لذراعيكِ
لحاضركِ
لأذكرك بي
فأتذكرني..
وبالرغم من النفس الطويل الذي يميز هذه القصائد إلا أن الشاعرة حافظت على لمستها المميزة والمعروفة عنها في خواتيم المقاطع, هذه اللمسة التي تحول تراب الكلام إلى ذهب المعنى, كما نرى مثلا في هذا المقطع:
إن لم تأت
سأرش دموعي ملحا للبحار
وأجعل من الصدف الأبيض بيتي
إن لم تأت حبيبي هذه المرة
سألبس ثوبي الأحمر الذي تحبه
وأعرّي كتفي
لرجل آخر..
هو: لا..

لعل الألم والمرارة سمتين بارزتين في شعر مرام المصري, لكنها استطاعت توظيفهما هذه المرة عبر قناع ولادة بنت المستكفي لتقول عبره مأساتها الشخصية, وهي تعبر عن رثائها للعالم المديني ملبسة إياه بدوره قناع الأندلس بمدنها التاريخية المعروفة. مرام لا تطرح شعارات رنانة ولا تطالب بعودة الأندلس مثلا, إنما تعود هي كذات إنسانية إلى مدن سكنتها في الماضي, لتسكنها المدن بدورها هذه المرة, إنها الذات التي تحب وتحزن وتتذكر وتجوع وتعرى وتخيب.
في كل مجموعة من مجموعات الشاعرة السابقة هناك مقولة شعرية تقولها بشكل فني عبر تصاعد درامي مدروس منذ بداية المجموعة وحتى نهايتها, لتشكل في النهاية ديوانا شعريا متكاملا في وحدة عضوية وفنية, وهذا بالضبط ما فعلته في ( العودة ) لكننا نلاحظ هنا أن القصائد في أغلبها مؤرخة زمانيا ومكتوبة خلال شهر واحد تقريبا, الأمر الذي زاد ربما في اللحمة التعبيرية واللغوية فيما بينها.
هناك الكثير مما يمكن قوله حول هذا الديوان بانتظار صدوره في الطبعة العربية, لكننا نختم بهذا المقطع:
كيف لي أن أعلق على أشجارك فاكهتي
وعلى أغصانك ورودي؟!
كنت وحيدة وسأظل
كشجرة عصيت على النار والريح..

ـــــــــــــ

نشرت في صحيفة تشرين السورية 6 أيلول 2008

الرسوم الرملية المتحركة من كارولين ليف إلى إيلانا ياهاف



يعتبر مصطلح "الرسوم الرملية المتحركة" من المصطلحات الحديثة في تاريخ الفن البشري, فهو يعبر عن نوع من الأداء الفني الحيّ الذي سُجّلت ريادته لأول مرة عام 1968م, على يديّ الأمريكية المبدعة كارولين ليف, إذ لم تكن قد تجاوزت العام الثاني والعشرين من عمرها بعد, حين قامت بوضع الرمال على صندوق مضاء ثم تلاعبت بيدها مع المكون الرملي لتنتج سلسلة من اللوحات أو الصور بطريقة أدهشت الحاضرين. كانت هذه السلسلة من الصور تمثل أول أفلامها في مجال الرسوم الرملية المتحركة والذي أطلقت عليه اسم "بيتر والذئب". تطور هذا الفن فيما بعد, حيث قامت كارولين ليف نفسها بوضع بعض الإضافات على فيلمها الثاني "أورفيو" عام 1972م, إذ أدت رسومها هذه المرة مباشرة على سطح زجاجي وتحت الكاميرا. كارولين ليف ما تزال حية اليوم, وتعيش في لندن كمدرّسة في الكلية الوطنية للتلفزيون والسينما, بعد أن أصبح في رصيدها عشرات الأفلام من الرسوم المتحركة والأفلام الوثائقية, بالإضافة إلى العديد من الجوائز الدولية.
منذ ذلك الوقت, بدأت الرسوم الرملية المتحركة بالانتشار بواسطة العديد من الفنانين حتى وصل إلى ذروته في وقتنا الحاضر, فأصبح يستخدم في مجال الإعلان, ويتم تداول بعض فقرات عروضه على مواقع الشبكة الفضائية وعلى أجهزة الهاتف المحمولة. وفي الحقيقة فإن الإبداع الحقيقي في هذا الفن تجلى على يد ثلاثة من أشهر الفنانين الذين ذاع صيتهم عالمياً وقدموا عروضاً مدهشةً في جميع أرجاء المعمورة وهم: إيلانا ياهاف التي سنتحدث عنها تالياً, والهنغاري فيرينك كاكو, والفرنسي ديفيد ميريام.
إيلانا ياهاف فنانة متعددة المواهب, فهي تجيد الرسم والنحت وكل ما يتعلق بالفنون ثلاثية الأبعاد, وهي تقدم عروضها اليوم حول العالم في سلسلة من المقاطع أو اللوحات الرملية مطلقة عليها اسم Sand Fantasy أو "مخيلة الرمال". ولعل ما يميز إيلانا عن باقي الفنانين في هذا المجال أنها تقوم بالرسم على الرمال مستخدمة أصابعها فقط, على عكس البقية الذي يستعينون أحيانا بالفرشاة أو بعض الأعواد الخاصة.
تقوم إيلانا ياهاف بنثر رمالها على سطح طاولة زجاجية مضاءة من الأسفل بضوء ثابت أو متعدد الألوان, ثم تبدأ بنسج رسومها على الرمل ترافقها الموسيقى والإضاءة المتعددة, فيما تقوم الكاميرا من الأعلى بتصوير حركات يديها الخفيفة والساحرة, ليتم تكبير الصورة أمام الجمهور عن طريق جهاز الإسقاط الرأسي. تخلق ياهاف تلك اللوحات البديعة وتبدع آفاقها ثلاثية الأبعاد, واحدة تلو الأخرى عن طريق تخريب السابقة لحساب الآتية, إلى أن تنتهي الموسيقى وسلسلة اللوحات في ذات الوقت. وفي الحقيقة فإنه من الصعب تقرير ما إذا كانت الموسيقى هي التي ترافق العمل, أم أن العكس هو ما يحصل, أي أن أصابع إيلانا هي التي ترقص على الرمال المتحركة فوق الزجاج على إيقاع الموسيقى الآسرة, منتجة تلك الحركية الديناميكية بجمالية حسية عظيمة. لقد كان لعرضها "مخيلة الرمال" وتحديدا فقرة "تعال إلى الحياة" حين قدمته أول مرة, أثرا خارقا على الحاضرين, كما قامت الموسيقى المختارة خصيصا لفقرة العرض, بإضفاء أثرها على مزاج الجمهور وصاحبت كامل العملية.
وبالإضافة إلى مقاطع الفيديو الفريدة والمنتشرة التي يمكن من خلال التفرج على إبداعات ياهاف, فقد أصدرت حديثاDVD جديد للأطفال بعنوان "الطفل الرملي". وهو عبارة عن عرض لسلسلة من اللوحات لأطفال في عالم سحري جذاب من الإبداع الفني, ترافقها الموسيقى الكلاسيكية المرحة والمؤثرات الصوتية اللعوبة المخصصة لتناسب أذن الطفل, والتي تم اختيارها وإبداعها من قبل الموسيقية ميراف جوزف ليفي لتشكل الخلفية الموسيقية لهذه المغامرة البصرية. هذا الفيض من "رقص الأيدي" الذي يتحدى المخيلة ويستثير الاستجابة متعددة الحواس, ملئ حقا بالمفاجآت الموسيقية والمؤثرات البصرية الفنية. ويبلغ طول الـ DVD 40 دقيقة ويشمل 12 قطعة من العروض تمثل أجمل ما أبدع في فن الرسوم بالرمال, في مشاهد لا يقل استمتاع الكبار بها عن أطفالهم. إن مشاهدة "الطفل الرملي" تعتبر تجربة آسرة لكل الأعمار وهو الـ DVD المثالي للمشاهدة من قبل جميع أفراد العائلة.
تقوم إيلانا برسم الوجوه والأشكال الطبيعية المتعددة بطريقة مدهشة حقاً وبسرعة تخال معها أن هناك سحرا ما تتم ممارسته, فخفة يديها ومرونة أصابعها وطريقتها البارعة في نثر الرمال, ومن ثم إنتاج تلك اللوحات والصور الجميلة عن طريق تمرير أصابعها بين الكثافات الرملية, تجعلك تظن لوهلة أنها لا تقوم بأكثر من لعبة عبثية لا هدف لها, وإذ بك تفاجأ في غضون لحظات بمدى جمال الأشكال الناجمة عن عملية "الحياكة" الرملية تلك.
يمكن الاستمتاع بمشاهدة العديد من العروض الجميلة لهذه الفنانة منتشرة على عشرات المواقع في الشبكة الإلكترونية. لكن الأهم من هذا كله, هو أن هذه العروض ستبقى محفورة في ذاكرة من يراها بشكل عصيّ على الزوال, حتى وإن كانت في الواقع عروضا من الرمال المتحركة التي تزول في لحظات, بواسطة ذات اليد التي تبدعها.

ـــــــــــ

تمام تلاوي جريدة أوان الكويتية 14/1/2008

إيديث بياف: من الأزقة الضيقة إلى صالات الغناء الواسعة



"الصبية" أو La Môme هو الفيلم الثاني في تاريخ السينما الذي يتناول حياة المغنية الفرنسية الأسطورة إيديث بياف. الفيلم الأول كان من إنتاج عام 1983م تحت عنوان "إيديث ومارسيل" وتركزت مجرياته على معالجة العلاقة الغرامية الشهيرة التي جمعت ايديث بياف ببطل الملاكمة العالمي مارسيل سيردان, وقد قام بإخراجه المخرج الفرنسي الكبير كلود ليلوتش الذي ذاع صيته عام 1966م إثر فيلمه "رجل وامرأة" الذي نال عليه العديد من الجوائز العالمية منها جائزة مهرجان كان للسينما وجائزتي أوسكار عن أفضل قصة وأفضل فيلم أجنبي.
الآن وبعد أكثر من عقدين على إنتاج الفيلم الأول, يطل علينا المخرج الفرنسي الشاب أوليفر داهان (40 عاماً) بفيلمه "الصبية", الذي ينظر إلى حياة إيديث بياف نظرة غير تأريخية, وإنما نظرة تتوخى أهم الأحداث المحورية التي مرت بها بياف, وكان لها تأثيرها البالغ في مسيرة حياتها الغنية والمليئة بالمفارقات التي تقترب من حدود الملحمة أكثر من كونها قصة حياة شخصية لمغنية شهيرة.
علاقة المخرج أوليفر داهان بالفن والموسيقى سابقة على علاقته بالإخراج السينمائي, فداهان المتخرج عام 1991م من أكاديمية الفنون في مارسيليا, هو رسام بالأصل, وقد أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية للوحاته, كما عمل في الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام مثل فيلمي amongst others و Zucchero بالإضافة لعمله لعدد من شركات الإنتاج الموسيقي مثل سوني وفيرجين. ولهذا ربما كانت لديه تلك الحساسية الموسيقية التي جعلته يصر على تقديم إحدى عشرة أغنية من أغاني الفيلم بالتسجيلات الأصلية لصوت إيديت بياف: أعتقد أنه من المستحيل إيجاد صوت يستطيع مجاراة تلك الفرادة المميزة لصوت بياف.. هكذا يقول داهان, ويردف كذلك, أنه أراد أن يحتفظ بالأصالة التوثيقية لعمله قدر الإمكان. ومع هذا فهناك أربع أغان في الفيلم قامت بأدائها المغنية جيل ايغروت بالإضافة إلى أغنية أدتها الطفلة كاساندرا بيرغر وظهرت على لسان الممثلة الطفلة باولين بورليت التي لعبت دور ايديت بياف الطفلة في الفيلم.
ساعتان وعشرون دقيقة من السينما الحقيقية, تسلب الأنفاس, وتدور بنا في أزقة باريس وشوراعها ومواخيرها, وتنتقل بنا من بيلفيل إلى نيويورك ومسارح الغناء الفخمة, بدءاً من عشرينات القرن الفائت وحتى سنة رحيل إيديث بياف عام 1963م, لنعود بعدها, بالكاد, إلى التقاط أنفاسنا بعد نهاية المشهد الأخير وإضاءة الصالة.
يحكي الفيلم عن المسار الاستثنائي لإيديث بياف من الطفولة إلى المجد, من انتصاراته إلى جروحه, عبر قدر أكثر غرابة من رواية, يكشف مساره عن روح فنانة وقلب امرأة..
والدة هذا "الدوري الصغير" -كما يعنيه اسم بياف بالفرنسية الدارجة- هي مغنية متواضعة مدمنة على الكحول تغني متشردة في شوارع باريس, فلا يجد والدها لاعب السيرك الجوال لويس الفونسو غارديون (يجسد دوره جين باول روف) وسيلة لحفظ الصغيرة من إهمال أمها سوى أخذها إلى جدتها لأمها التي تعمل طاهية في أحد المواخير, لتتولى بائعات الهوى رعايتها. يعود الأب بعدها بسنوات لأخذ ابنته منهن في مشهد درامي شديد الإيحاء والتأثير, وليستفيد من صوتها في عروضه البهلوانية الفردية في الشوارع بعدما تم طرده من الفرقة. يكتشف موهبتها لويس لوبلي أحد أصحاب الملاهي الليلية, الذي يمثل شخصيته هنا الممثل جيرارد ديباردو, ويجلبها للغناء لديه, فيقتل بعدها في ظروف غامضة. يقوم بعد ذلك الموسيقي المحترف ريموند أسّو (يجسّده ببراعة الممثل مارك باربو) بتولي بياف ويدخلها إلى عالم صالات الغناء الراقية ومن ثم الشهرة السريعة.
الكحول والحزن هما الشريكان الأهم لحياة بياف المأساوية. طفلها الذي تفقده إثر إصابته بالتهاب السحايا, علاقاتها الفاشلة مع الرجال. شخصيتها المضطربة, وعصبيتها ومزاجيتها, نجاحاتها الفنية, علاقتها بالملاكم الفرنسي العالمي مارسيل سيردان (يجسّده جين بيري مارتن) الذي تلتقيه في أمريكا, وموته الدرامي بعد ذلك في حادث تحطم طائرته القادمة من باريس عندما كان قادما لرؤيتها. هذياناتها. تعرضها لحادث سير أدى إلى كسور في جسدها جعل منها مدمنة على المورفين الذين كان يستخدمه أطبائها لتسكين أوجاعها.. وأخيراً إصابتها بتشمع الكبد وشللها الجسدي والنفسي والعقلي ووفاتها. كل هذه الأحداث وغيرها يسردها داهان بأسلوب سينمائي عالي الحرفية, وبأسلوب تتخلله أغاني إيديث بياف الخالدة, ويعتمد تقنية الفلاش باك, ليقترح من خلاله مسيرة غير خطية للفيلم, تشكل فيها الذكريات والتداعيات الركنين الأهم في العملية السردية.
اللقطة السينمائية في الفيلم مأخوذة بعين فنان ماهر, يتيح لك أن تجعل من كل مشهد في الفيلم لوحة فنية تنتمي بحق إلى عالم الفن السابع. اللقطات القريبة على وجه إيديث الطفلة, ومشهد أخذها من الماخور, ومشهد سقوطها على المسرح, وغيرها تشهد ببراعة توظيف الكاميرا لدى دهان لإنتاج التأثير الأعظمي لدى المشاهد. لكن الأهم برأيي هو براعة كوتيلارد الفنية في التجسيد الميلودرامي لدور تلك المرأة النزقة والقلقة والمضطربة التي تجيش في أعماقها روح الفنان, ويشع من عينيها بريق المآسي التي لازمت حياتها منذ الطفولة.
الممثلة الفرنسية ماريون كوتيلارد (32 عاماً) لعبت دور إيديث بياف في هذا الفيلم بشكل مذهل وبالغ الإقناع وشديد الإحساس, دون أن نهضم طبعاً حق الطفلتين مانون تشيفالير وباولين بورليت اللتين لعبتا شخصية بياف في عمري الخمس والعشر سنوات على التوالي. ربما يتذكر البعض منا كوتيلارد في سلسلة أفلام تاكسي1 و2 و3. لكن هذا الفيلم بالنسبة لها يمثل بلا شك الفيلم الأهم في مسيرتها السينمائية, البالغة حتى الآن حوالي خمسة وعشرين فيلماً. فبالرغم من هذا العدد الجيد من الأفلام التي اشتركت بها إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تحظى بها بدور البطولة الرئيسية في فيلم ربما يكون من أهم الأفلام التي انتجت في السينما الفرنسية خلال العقد الأخير. دورها هذا لفت الأنظار إلى موهبتها العظيمة في كل أنحاء العالم, وجعل منها ممثلة ذات شأن كبير في عالم السينما, وقد نالت عليه ثلاثة جوائز كأفضل ممثلة في مجمع بوسطون للنقد السينمائي وفي لوس انجلوس وفي مهرجان الفيلم الرومانسي في كوبورغ. ومما لا شك فيه فإن اختيار داهان لهذه الممثلة ينم عن ذكاء بالغ وعين هي بالفعل عين رسام قبل أن تكون عين مخرج, فمن يعرف بياف من خلال صورها قبل الفيلم يكاد لا يشك للوهلة الأولى أن من تلعب الشخصية هي إيديث بياف نفسها, بجبينها البونابرتي, وعينيها اللتين كأنما لأعمى استعاد بصره للتو, ويديها اللتين كيدي حلزون الخرائب, تماما كما وصفها صديقها الكاتب الفرنسي الكبير جان كوكتو الذي توفي في نفس اليوم بعدما بلغه نبأ وفاتها في 11 تشرين أول 1963م.
عرض الفيلم لأول مرة في شهر شباط من العام 2007 في برلين, ثم عرض في آذار في هولندا, ليعرض بعدها في باقي أرجاء العالم وينال بالإضافة إلى جائزة الدب الذهبي في برلين, جائزة الفيلم الأوروبي عن أفضل فيلم وجائزة ستيلايت لأفضل مخرج, وهي ليست الجائزة الأولى التي ينالها داهان لأفضل مخرج فقد نال قبلها جائزة الصدفة الذهبية في مهرجان سان سيبيستيان العالمي للسينما عام 2002 عن فيلمه La Vie promise . صدرت النسخة الإنجليزية من فيلم الصبية في حزيران 2007 تحت عنوان "الحياة في الورد" La Vie En Rose.
"الصبية" هي قصة كنز وطني فرنسي حقيقي, أو لنقل قصة كنز عالمي, إنه قصة سيدة عظيمة وقصة إيمانها وألمها وشغفها, وكذلك بالطبع قصة الحب الملعون أحياناً, الذي غنّته دائماً.
ــــــــــــــــــــــــ

تمام التلاوي - جريدة أوان الكويتية 22/1/2008

بازي النسوان: قناص يصطاد الجمال ويتلذذ بالهزيمة


بجيش من النساء وقطيع من الحزن والذكريات, يطل علينا الشاعر العراقي محمد مظلوم حاملاً ديوانه الجديد "بازي النسوان" الصادر حديثاً عن دار التكوين (2008). وأقول ديواناً وليس مجموعة شعرية, لأنه يتكون من قصيدة واحدة تمتد على مساحة 140 صفحة من الشعر الخالص, الذي يحمل نفَساً ملحمياً محموماً بدراما صاخبة ولغة متدفقة لا تهاود إلا لصالح الشعر, ولا تستسلم إلا للمرأة. المرأة التي يتوجه إليها هذا السومري تمتد منذ نساء الأساطير كهيلين وديانا وجوليا وليليث وصولاً إلى "مراهقة ترى العالم والرجال/ من الطوابق العليا للباصات" ص19.
يستهل محمد مظلوم كتابه على عادته في أغلب دواوينه باقتباسات شعرية أو نثرية تشكل الفاتحة أو المدخل إلى البناء الفني للديوان, وهو هنا يقتبس أربع شواهد لكل من القلقشندي وأبي تمام وأبي نؤاس وعبد القادر الكيلاني تتعلق جميعها بطائر الباز, هذا الكائن الشعري الذي يشكل مفتاح النص برمته ويبني عليه الشاعر الصورة الكلية لملحمته.
ينقسم الديوان بشكله الفني العام إلى جزئين رئيسيين يفصلهما الفراغ الطباعي في الصفحة 80. يعتمد غالباً في جزئه الأول على السطور أو الجمل الشعرية القصيرة, عالية النبرة والأكثر كثافة من حيث بناء الصورة, فيما يميل الجزء الثاني إلى الجمل الشعرية الطويلة التي تمتد إلى عدة أسطر, وتعتمد على سردية الخطاب واستخدام أدوات اللغة العطفية والاسئنافية والسببية والاستدراكية, إنما بعيداً عن الإنشائية والاستخدام المجاني للغة. لأن المظلوم كما خبرناه منذ أعماله السابقة شاعر يمسك جيداً بأدواته الشعرية ومواده البلاغية والنحوية, ولا يسمح لجمله بالمرور إلى الورقة دون رقابته الفنية الصارمة. هذا الشكل العام للديوان يذكرنا بديوانه "أندلس لبغداد" الذي يتألف كذلك من قصيدة طويلة واحدة يستخدم بها الشاعر عدته الكاملة وينوع فيها, كما هو الحال هنا, على الأشكال الشعرية المختلفة: العمود والتفعيلة والنثر, وإن كان الأخير هو الغالب.
هذا هو الديوان السابع للشاعر, لكنه الديوان الأول من حيث توجهه المباشر إلى المرأة, رغم بعض القصائد التي تخللت الدواوين السابقة. ربما لأن الشاعر سأم سيرة الحرب والمنفى التي خاضها حياة وشعراً منذ الثمانينات وها هو يخرج "من الحرب إلى الحبّ/ كراءٍ رأى ما رأى / وتيقن من خراب أعياده" ص8, عائداً "في آخر قارب/ من سيناريو خائف لحرب أهلية/ بين بغداد الشرقية والغربية/ .../ جريح الهوية والذكريات" ص87, لهذا فقد آن الآوان ليلتفت في عزلة المنفى إلى ذاكرة جسده بعدما أصبح مفلساً "من النساء/ فلأكتب عنهن في ندرتهن بأيامي هذه / كيهودي يقلب دفتر حسابه القديم بحثا عن ديون مهملة / كعطلة الأشجار في سماء موحلة"ص9.
لكنه مع هذا, لا يستطيع النجاة من حمى هذه الحرب الأهلية التي كما تغلغلت في حياته, تسللت إلى علاقته بالمرأة كذلك, إنما هي حرب أهلية جديدة أخف وطأة لا تقسمها الحروب "أنتِ بغدادي الشرقية والغربية التي لا تقسمها الحروب ولا النساء"ص88, إنها "حرب أهلية لا تنقصها الموسيقى" ينشغل خلالها "بكل تلك الشؤون والذكريات"ص9. إذن فهي حرب أهلية مع امرأته, حرب يخوضها بينه وبين جسده وشهواته وذكرياته يقبل عليها كبازي أرهق بوصلته "بضراوته وتضوره" ص12.
وعلى الرغم مما يتظاهر به هذا البازي من الضراوة, والرغبة في الهتك, وسعار الشهوات, وعلى الرغم من الأقنعة العديدة التي يحاول تقنيع وجهه بها كما في قوله: "أنا سومري أكلت لحمه النسور لكنني بعثت طائراً آخر بجناحين من هبوب شرس وبي ضراوة الهتك وهي تثب منتفضة كلما لمعت سُرّة رومية أو ركبة فارسية أو كتف صحراوية"ص84, وفي قوله: "أنا باريس الطروادي في ذريعة اليونان أدفن هيلين عند سواحل الأناضول, وألاحق أوفيد الروماني في معتقل آثامه الشاسعة"ص35, وفي ادعائه: "بي لوثة كازانوفا"ص35, وادعائه أن به:"لذة الماركيز المسعورة بسم الأساطير" ص46, إشارة إلى الماركيز دو ساد الذي يعقب عليه في مكان آخر من الديوان: "أنا ماركيز جسدك/ سجني أوسع من مسرح/ يتدافع في انهياره الجن والإنس ملتصقين" ص76, أقول, إنه بالرغم من كل هذه الإدعاءات, إلا أنه يسقط أخيراً في فخ حقيقته حينما يعرج على دون جوان قائلاً: "دون جوان متزوج من الندم منذ فجر العالم" ص45. ليس هذا وحسب بل يسقط أيضا في سلسلة من الاعترافات التي تشي بندمه الكبير وعذابات ذكرياته, كما يقول: "لا أصيد لغريزة المتعة أو لأمتعة سفر عابر, لا طلبا لجائزة..../../بل لأنني أبحث عن شِقَّة نفسي وشقاق أيامي../... / أبحث عنك وكأنني أضعتك ذات يوم ولا أنوي أن أضيعك مرة أخرى"ص95, وقوله: " سأكون معك.../ كأنني أعثر على أبديتي الضائعة"ص107, وقوله:"إنها ذبحة النَّوح من عهد نُوح"ص96.
من هنا نعثر على ماهية البحث التي يسِمُ بها هذا البازُ قنصَه, فهذا "الفاتك قبل الأربعين, الناسك بعد الأربعين" ص29, لا يبحث إلا عن نساء ذاكرته, جناحه الأيمن هو الحزن والأيسر هو الندم, هؤلاء النسوة اللواتي: "إليهن مشيت مع النهر وصحبة الغروب/ .../ وابتسمت لرقصة الظلال/ على طبول النهارات في كرادة الستينات/ وطاردت ظلالهن الصاعدة ببطء/ نحو مراهقة ترى العالم والرجال/ من الطوابق العليا للباصات"ص19 , النسوة اللواتي يندم عليهن بعدما آلت حياته إلى الغروب: "قبل العشرين/ كان الجميع ينافسني على امرأة وحيدة/ ترعى قطيعا من العشاق/ في ظهيرة مدرستها./ وبعد الأربعين/ لا أحد منهم/ يشاركني بقطيع من النساء/ يرتعن في عسل الغروب" ص51. إنه البحث عن الطفولة الضائعة, وعن نقطة البدء الأولى: "وأهيم في سهول خيالات/ كنبي يتذكر مرعى شياهه" ص78, ويعترف: "احضنيني بآبارك لألتصق بسرتك كما لو أنني أسترجع الحبل السري صلة لبداياتي" ص93. كل هذا لسبب وجيه: "إنها طفولة مريرة/ كعصارة شجر الصبر/ على حلمة تطرد فم الرضيع/ ليمضي حياته رجلا مفطوما/ ومهيجا بالذكريات" ص32.
الأنثى لدى محمد مظلوم تتقنع بأقنعة عديدة كذلك, فهي في مفهومه لا تقتصر على المرأة الحاضرة لحماً ودماً بين يديه, بل يرى فيها كل النساء بدءاً من نساء الأساطير والتاريخ وصولا إلى حبيبته: "لا أمتلك لغزاً لليلى المريضة بعشق الغرباء/ أو لجوليا الأسيرة في ثياب الملكات/ فأجمعهن بكلمة حبيبتي" ص33.
العلاقة بين الرجل والمرأة عند الشاعر هي علاقة جدلية في مفهومه, قائمة على المواجهة والتحدي والقنص والأخذ والرد, إنه يدجج نفسه بكل الرجال الأسطوريين والتاريخيين ويدججها بالمقابل بكل النساء المتفردات تاريخياً, ليخوض معركة قوامها مائة وأربعون صفحة, والنهاية مفاجئة, إنها النهاية التي لا نتوقعها من عنوان الديوان ولا في صفحاته المائة الأولى, إنها هزيمة الرجل الذي لا يرى الأنثى في نهاية رحلة القنص "سوى سرب من الذكرى يفرّ مدججاً بسراب" ص124. إنه إغواء معكوس " لعبة أجيد فيها الهزيمة, بانتظار غزواتك لي/ سأكون هذه المرة طيّعا كملك أتعبه الضجر والحب" ص125, "حيث المرأة بارتغابها أكثر فتكا بالرجل من الرجل بأعدائه ونفسه" ص97.
هكذا ومع نهايات الديوان يعلن المظلوم هزيمته النكراء في مواجهة المرأة, لكنه يعلن بالمقابل انتصاراً من نوع آخر, إنه الإنتصار الشعري والفني الذي نلمسه في كل سطر بهذه الملحمة.
اللغة الشعرية عند المظلوم لغة غنية بالصور, فالصورة الكلية للقصيدة تضم مئات الصور الجزئية الموظفة لصالح الأولى, وهي في العموم صور مكثفة, تتعدد مستوياتها الدلالية, وتأخذ المتلقي إلى أكثر من وجهة. قاموس المفردات قاموس غني ومتنوع أيضاً, ونستطيع الاستدلال على أكثر من واحد عبرها, فهناك المفردات الأسطورية, والتاريخية, التي ذكرناها آنفاً, وهناك قاموس المفردات اليومية التي نراها في بعض الصور الحسية مثل: "ها أنا أرى أعلى سروالكِ يُسفِر عن سرّتك" ص109, "عاداتي وأنا أرفس الغطاء نحوك أو أنتزع المخدة من بين ركبتيك وأدسّ بدلاً عنها إحدى ركبتي" ص119, "أما زلتِ مصرّة على منعي من إتيانك في الحمّام وغشيانك تحت الماء.../../ ألم تحمّميني عندما كنت أعود مغبرّاً من تراب الحروب" ص120. هنالك قاموس المفردات المعجمية أيضاً مثل: الفواخت, فيشلة, زبرج, حوثرة, الرهل, الزهل, نشوغ... وغالباً ما وظف هذه الكلمات ضمن امتدادها التاريخي, حين يستدعي تاريخ الإيروتيكا العربية شعرياً في قصيدته, ليعطي الصور دلالاتها من خلال الألفاظ الواردة في الأدبيات الإيروتيكية العربية. وعلى نهج هذه الأدبيات يتطرق الشاعر إلى بحث لغوي عن أصل تسميات العضوين الجنسيين لدى الرجل والمرأة ومرادفات تسميتيهما, كما نجد في الصفحتين الخامسة والخمسين, والتاسعة والخمسين. كما يصف هذين العضوين وصفا شعرياً إيروتيكياً متناهي الجدّة والإبداعية. ولا ينسى كذلك أن يستفيد من الإيقاع اللفظي الداخلي للمفردات عن طريق توظيفه للجناسات والطباقات ضمن سياق الجملة مثل: "فرأت ليليث ليلى/ مزجت ليلى بليلي"ص65, "يحرث أسرار سيرتك/ ما بين السرة والسرير" ص73, "ويأتي حرثه بحوثرة ساخنة"ص74, "أنت في نومك وأنا في يومك"ص85.
قد نختلف مع الشاعر في بعض تقنياته أحيانا وقد نتفق أحيانا أخرى, لكنك تشعر خلال قراءتك لهذا الديوان أن محمد مظلوم يحشد كل طاقاته اللغوية والبلاغية والمعرفية لصالح هدفه الجمالي والشعري. تشعر أنه يحاول كتابة ملحمته الشخصية من خلال العديد من الملاحم التي يتطرق إليها في النص, ويصوغ ذكرياته وخيباته وأحلامه بيدٍ حريفة عالية اللياقة, لا تعوزها الموهبة ولا تنقصها الأدوات القادرة على اجتثاث الشعرية من منابعها الأصيلة. بازي النسوان هو سيرة ملحمية لزير نساء في خضم حرب أهلية, لا تنفك عن اكتشاف عشرات الأشياء الجديدة بها, كلما أعدت قراءتها.

ـــــــــــــــــ

تمام تلاوي - ملحق نوافذ - جريدة المستقبل اللبنانية

نادي الرسم المجاني للأطفال


إذا مررتَ عصرَ يومٍ ما "بضاحية الإسكان الجديدة" في مدينة اللاذقية السورية, فقد يحالفك الحظ بمشاهدة تجمع فريد وحاشد لأطفال يقومون برسم لوحات فنية مختلفة بالطباشير الملونة على إسفلت الشارع, أو بأقلام التلوين على لوحات كرتونية, أو ربما تراهم يغنّون بشكل كورالي, أو أن أحدهم يقوم بقص حكاية على رفاقه, فيما موسيقى خفيفة تصعد من زوايا خفية. هذه الظاهرة اللافتة والفريدة من نوعها, ليس في سوريا وحسب, وإنما ربما أيضا في العالم العربي كله, معروفة في تلك المدينة باسم: نادي الرسم المجاني للأطفال.
التمعتْ فكرة إنشاء هذا النادي في ذهن كلاً من الفنان عصام حسن, رسام الكاريكاتير المعروف, والدكتور ياسر غانم, قبل حوالي ثلاث سنوات. فلم يكتفيا بإبقائها فكرة, بل سارعا إلى تنفيذها بما امتلكته أيديهم من لوحات كرتونية وأقلام ملونة, في شهر آذار من العام 2005م, وشرعا بتوزيعها على بعض أطفال الحي الذين لم يتجاوز عددهم آنذاك عشر أطفال. وسرعان ما انتشرتْ حمّى الرسم في المنطقة. وتحول المكان خلال سنة واحدة إلى مركز للإبداع بكل أنواعه, الرسم والموسيقى ورواية القصص لهؤلاء الأطفال الذين يتجاوز عددهم اليوم, في كل مرة يقيمون فيها هذا النشاط, مائة طفل. قامت البلدية بتحسين الشارع, فأعيدت سفلتته, وتم رصفه بالأحجار الملونة, ووضعت أصص الزهور وتم بناء مركز صغير للنادي, فيما يشبه واحة إبداعية ملونة ومفتوحة على كل الجهات.
اعتمد "نادي الرسم المجاني للأطفال" في البداية, ولمدة عام ونصف, على تبرعات القائمين عليه, ثم تم لاحقا التعاون مع بلدية اللاذقية وبعض الجهات الرسمية. وتقوم مؤخرا جمعية "قوس قزح لطفولة أفضل" بتقديم المعونة اللوجستية للنادي وتمويل تكاليف منشوراته. يقام نشاط النادي دوريا, حيث يتم كل خمسة عشر يوما في حارتين أساسيتين, بالإضافة إلى نشاط جوال يقام كل شهر في حي جديد.
يقف الأطفال بالدور لاستلام أدواتهم, التي توزع عليهم مجانا بالطبع, ثم يبدأ الرسم على اللوحات الكرتونية بالألوان المختلفة, مائية, باستيل, فلوماستر .. الخ. ثم يأتي بعد ذلك دور الرسم بالطباشير على الطريق. ثم فقرة "الحكاية" حيث تقوم إحدى المشرفات أو أحد المشرفين بقص حكاية على الأطفال. ثم فقرة الموسيقى حيث تقوم فرقة كورال صغيرة من المشرفين والمشرفات بتقديم الأغاني للأطفال, كما يتاح المجال لأي طفل يمتلك موهبة ما ليقدمها إلى رفاقه.
لا يتدخل المشرفون مطلقا برسوم الأطفال, وإنما يقومون فقط برعايتهم وتأمين حاجاتهم, وللطفل الحرية الكاملة في طريقة الرسم واختيار الموضوع والأدوات. ويبلغ عدد المشرفين حتى الآن 75 مشرفا من المتطوعين للعمل في النادي. وطبعا هناك موسيقى دائمة يستمعون إليها أثناء الرسم.
تطور نشاط النادي من خلال النقاشات بين المشرفين التي تتم بعد كل نشاط ويطرح فيها انتقادات وملاحظات وأفكار جديدة. فقد أضيف الكثير مما أغنى الحالة الثقافية والإبداعية للطفل, حيث يصدر عن النادي بشكل شهري جريدة صغيرة تنشر كتابات للأطفال, شعر, قصة, رسوم, صور..إلخ. كما يقوم النادي بإصدار روزنامة سنوية مزينة برسومهم, وكذلك مجموعة من البطاقات البريدية, و منشورات يوزعها النادي مجانا على الأطفال والأهالي ولا تباع مطلقا. هذا وقد أضيف حديثا لنشاطات النادي مكتبة صغيرة في مقرّه, ويتاح للأطفال من خلالها استعارة الكتب بشكل مجاني, حيث يُصدِر النادي بطاقات اشتراك لأي طفل يريد ذلك, ليتمكن بموجبها من استعارة القصص والكتب المختلفة.
ويهدف النشاط بالدرجة الأولى إلى خلق حالة اجتماعية صحية من خلال إقامة علاقة متغايرة عن المألوف بين الطفل والحي الذي يقيم فيه, وبث روح المحبة والألفة والتعاون بين أطفال الحي وحضهم للحفاظ على نظافته والاهتمام به, بالإضافة إلى إنشاء علاقة جديدة بين الأطفال والأهالي.


يشكل "نادي الرسم المجاني للأطفال" حالة جديدة, شديدة الجمال, وبالغة الرهافة, في هذه المدينة الصغيرة الواقعة على ساحل المتوسط, وقد شجعتْ مؤخراً بعض الأحياء الأخرى في المدينة على تكرار هذه الظاهرة المتفردة. ولعل شيوع مثل هذا الأمر في باقي الدول العربية خصوصا مسألة نتمناها جميعا, ليس فقط من أجل تغيير طبيعة العلاقة بين الطفل والحي, وإنما لتغيير هذه العلاقة بين الطفل والحياة كذلك.

ــــــــــــــــــــــــ

تمام التلاوي - جريدة أوان الكويتية 1آذار2008

كيف فُسّرت «نحن والقمر جيران» ؟


تحت شعار «الجسد روح الآخر» افتتح في الأردن الأسبوع الثقافي الدمشقي «زيارة دمشقية إلى عمّان» بأمسية موسيقية غنائية أحيتها الفنانة السورية شمس إسماعيل يرافقها على العود الفنان ماهر محمود وعلى الإيقاع الفنان رامي الجندي اللذان قدّما أولاً ثلاث مقطوعات موسيقية؛ اثنتين منهما من تأليف العازف ماهر محمود والثالثة من التراث. بعد ذلك صدحت شمس إسماعيل بأغنيات لفيروز والشيخ إمام وسيد درويش وزياد الرحباني بادئة بأغنية «نحنا والقمر جيران» التي فُسّرت على نحو سياسي إيجابي، وجميل، لكن بشكل لم يكن مقصوداً من قبل شمس إسماعيل -كما أخبرتنا- حيث اعتبر البعض هذه الأغنية مثالاً لما يجب أن تكون عليه الحال بين الدول العربية المتجاورة خصوصاً. غنّت بعدها العديد من الأغاني التي ألهبت مسرح كليّة «تراسنطة» كأغنية «عايشة وحدها» و«شو هالأيام» لزياد الرحباني، كما غنت لسيد درويش «الحلوة دي» و «البحر بيضحك» للشيخ إمام، بالإضافة إلى أغان أخرى مثل «أمّي نامت ع بكير»، «طريق النحل»، «عندي ثقة»، «عصفور طل من الشباك» وغيرها. لكن مهارات شمس الصوتية وطاقتها الغنائية تجلّت بوضوح عندما غنّت غناء منفرداً بلا موسيقى أغنية فيروز «يا ريت»؛ الأمر الذي حوّل تراسنطة إلى ما يشبه مكاناً لأداء طقوس الوجد أكثر من كونه مسرحاً للغناء.
الأغنية الجادّة والأصيلة
وتعتبر شمس إسماعيل من المغنيات السوريات القليلات اللواتي ارتبطن بالأغنية الجادّة والأصيلة، بعيداً عن الفن الاستهلاكي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. وقد بدأت مسيرتها الغنائية المتميزة عام 1999 في مهرجان حصين البحر في الذكرى الثانية لرحيل سعد الله ونوس، تتالت بعدها أمسياتها الغنائية في مختلف المحافظات السورية لتصل إلى أكثر من عشرين أمسية جعلت اسم شمس إسماعيل معروفاً ولافتاً في سوريا وخارجها.
وقد شارك معها في الأسبوع الدمشقي الثقافي بعمّان (من 14 إلى 29 تشرين الثاني) العديد من الوجوه الثقافية السورية المعروفة في مختلف المجالات الفنية الثقافية، ففي مجال الموسيقى شاركت فرقة «أثر» الموسيقية ولارا عليان، وفي السينما قُدّم عرضان للمخرجين محمد قارصلي وموفق قات، وفي الأدب شارك الشاعر عادل محمود والقاص إبراهيم صموئيل، وفي المسرح شاركت المخرجة أمل عمران مع الممثلة حلا عمران والعازف طارق الفحام في عرض «فصل من الجحيم» لأرتور رامبو، بالإضافة إلى فنانين تشكيليين معروفين مثل نذير إسماعيل ووليد قارصلي ومصطفى علي وغيرهم... ويهدف المشروع إلى التعريف بإبداعات مختلفة ومتنوعة لعدد من الفنانين السوريين على أن تشكّل التظاهرة حواراً فنياً وفكرياً وجمالياً، عبر رؤى إبداعية تعبّر عن الثقافة العربية المعاصرة.

ــــــــــــــــــــــــ

تمام التلاوي - جريدة أوان الكويتية 12 ديسمبر 2007

عندما يصبح النهد الأيمن ذراعا يسرى




الجسد والفن هما القداستان الوحيدتان بالنسبة لي في هذا العالم, هما هاجسي, وهما أصل شهواتي, وهما المبرران الوحيدان لاستمراري في الحياة. بالكاد أفكر في شيء آخر, كل الأشياء عداهما هي من لزوم ما لا يلزم, هي أشياء ربما تعمل في خدمتهما, هي أشياء أسخرها كي أستطيع التواصل معهما.
لقد كفرت منذ زمن طويل, كفرت بكل العقائد والأفكار والنظم والأخلاق السائدة, واستعنت بثقافتي الخاصة المتناقضة المشارب وبمخيلتي الملتهبة على استخلاص شريعتي الخاصة, ووضع نظامي الأخلاقي الخاص. لكنني في النهاية, وبعد فوات الأوان ربما, اكتشفت كم أصبحت المسافة هائلة ما بيني وبين الآخرين, بحار ومحيطات شاسعة تفصلني عن الدين والأعراف, وجبال ووديان لا حدود لها تفصلني عن أفكار وثقافة المجتمع وناسه, أما الفضاءات والمسافات الضوئية فهي ما يفصلني عن الفنانين والمثقفين.
الجسد والفن يعملان معا لخدمة بعضهما البعض في علاقة براغماتية, إنما شديدة الرفعة. لكنني أتطرق هنا إلى أداة أخرى لها من وجهة نظري النفسية علاقة وثيقة بالفن والجسد معا. إنها المرآة التي لا أستطيع التغاضي عن دورها بالغ الدقة والحقيقية في تصوير الجسد.
الفن يصف الجسد مستعينا بالمخيلة, لكنه وصف يتوخى المبالغة الجمالية. أما المرآة فتصوره بدقة مجردة تطابق الأصل, لكنها صورة معكوسة, فالنهد الأيمن يصبح نهدا أيسر, والذراع اليسرى تصبح الذراع اليمنى, وهكذا دواليك.. إذن هي تصور بأمانة مطلقة, لكنها صورة معكوسة وخائنة تماما, أما في الفن فقد يصبح النهد الأيمن ذراعا يسرى, والذراع اليمنى قد تصبح عينا وسطى أو ساق دلب أو عمود رخام, ولا حدود للاحتمالات. وهنا يغدو الوصف وصفا فوضويا شديد الكذب وبالغ الغرابة والجمال إن كان الفنان موهوبا.
الشعر لا يصور الجسد إنما يصور مديح الجسد, والمرآة تصور الجسد معكوسا, أما النحت والرسم فيستطيعان أن يحملا خواص كلتا الأداتين, النحت والرسم يستطيعان أن يصورا الجسد معكوسا, ويستطيعان أن يصورا الجسد كما تراه المخيلة بشكل يصل إلى السوريالية المطلقة, لكنهما كذلك يملكان خاصية إضافية كونهما يستطيعان أن ينقلا صورة طبق الأصل عن الجسد لا هي معكوسة ولا هي خيالية ولا سوريالية ولا انطباعية. لهذا ربما يلجأ نحات ما إلى التعامل مع المرآة إن كان لا يملك الـ muse أو النموذج الذي يستلهم منه عمله.
أما علاقة المرأة بالمرآة فهي علاقة جدلية جدا, وتحمل مختلف الأبعاد والمستويات الدلالية التي تتفاوت باختلاف ثقافة المرأة ومستوى جمالها ومقدار عشقها لجسدها. هناك امرأة تستخدم المرآة للزينة أو لإخفاء شوائبها, وهناك امرأة تستخدم المرآة لتتأمل جمال جسدها ولتزداد به فتنة وولها, وهناك امرأة تستخدم المرآة لتتذكر جسدها. وربما تستخدمها امرأة ما لتستلهم من جسدها عملا إبداعيا ما شعرا أو نحتا أو رسما. وكما يفعل البعض كنت أستخدم المرآة أحيانا أثناء ممارسة الحب مع المرأة, الأمر الذي كان يضاعف اللذة ثلاث مرات, المرة الأولى هي لذة الممارسة نفسها, والمرة الثانية هي لذة شعورك وأنت تراقب جسدين في حالة حب, والمرة الثالثة هي لذة شعورك بأن أحدا ما يراقبك وأنت في هذه الحالة. والمرآة هنا تضفي الكثير من الإباحية على المشهد, وتجعل حالة الانتهاك حالة علنية, حالة كشف وافتضاح, حالة ترتبط لا شعوريا بحالة مشاهدة أفلام البورنو ربما. يصبح دور المرآة هنا كبيرا أيضا بالنسبة للمرأة التي تعشق جسدها, إنه يريها جسدها في حالة الاشتعال والاستنزاف الجنسي, يريها جسدها وهو يؤدي دوره الجمالي في حالة الجنس. المرآة تصبح أمرا أساسيا في بعض مراحل الحياة, أمر يزيدنا معرفة بجسدنا, بتشكيلاته وتفاصيله, يجرنا إلى (دراسة مقارنة) مع أجساد الآخرين من كلا الجنسين, يرينا نقاط التشابه والاختلاف مع أبناء جنسنا ومع الجنس الآخر, ونقيس من خلاله مقدار ذكورتنا أو أنوثتنا. نحن لا نرى ظهورنا وقذالات رؤوسنا ومؤخراتنا إلا من خلال المرايا, وهي هنا الوسيط الوحيد والحصري بين عيوننا ورؤوسنا, إنها عيننا الثالثة, أو بشكل أدق, إنها عيننا الخلفية.
لكن علاقة المرأة بالمرآة هي أشد وأكثر حميمية من علاقة الرجل بها, ليس فقط من الناحية اللغوية الجناسية -وهذه العلاقة بالمناسبة علاقة تثير في داخلي الكثير من الأسئلة الصرفية والبلاغية واللسانية, ولم أعرف حتى الآن من أين وكيف جاءت- وإنما أيضا من الناحية الروحية, فالمرآة لدى كثير من النساء صديقة لا تبارح حقائبهن وغرفهن وطاولاتهن. وإذا ما تغيبت هذه الصديقة لسبب ما فإن المرأة تحس بارتباك وفراغ لن يستطيع ملئه إلا المرآة نفسها.
أعرف امرأة تستخدم آلة تصويرها لتصوير نفسها عارية في المرآة, وهي لا تنصب الكاميرا على عينها دائما, بل تنصبها مكان الفرج أحيانا, لتصبح الكاميرا هي الفرج الذي نرى من خلاله الجسد, أو ليصبح الفرج هو الكاميرا التي يطل من خلالها على الجسد. عين الكاميرا هنا مفتوحة كالفرج الذي يرى.. الكاميرا تسجل تفاصيل الجسد, والفرج يسجل تفاصيل الشهوة, وهكذا يصبح للفرج ذاكرته التي تشعل الحنين وتسترجع الشهوات التي أشبعت منها والتي لم تشبع بعد. فيما تتوسط المرآة هذه العلاقة الفنية لتجعل من الفرج الكاميرا التي تصور الجسد. هذه المرأة استطاعت أن تحول المرآة من أداة تصوير مجردة, إلى أداة فنية تنفث الروح في المشهد وتهبه حيوية فريدة. لكن يجب أن نعلم هنا أن هذه المرأة هي شاعرة أيضا.
المرأة التي تهجر المرآة, يقل جمالها يوما بعد يوم, تماما كالشاعر الذي يهجر الكتابة, وكالرسام الذي يهجر الألوان, لكن حالات الهجر هذه تكون مترافقة دائما بحالات الكآبة والانهيار النفسي والعاطفي, الحالات التي تقل فيها قيمة الذات لدى صاحبها, ويزدري فيها الفرد نفسه, وهي تشكل أحيانا نواة القرار الصعب بإنهاء الحياة على يد صاحبها نفسه.
أما أنا فما دام الجسد والفن هما القداستان الوحيدتان بالنسبة لي, فهذا يعني أن الحياة أمر مقدس كذلك, وبالتالي فإني لا أبشّر اليوم, أو بالأحرى, لا أفكر كثيرا, بموتي القريب..
ــــــــــــــــــــــ


تمام التلاوي - موقع كيكا



غرفة عالية لقنّاص الأسى


من أرض الحجاز جنوباً إلى الساحل السوري شمالاً, يستدرج القنّاص طرائدَه الكثيرةَ إلى غرفته الصغيرة. خمسةُ أمتارٍ طولاً وثلاثةٌ عرضاً, بسقف واطئ, ونافذةٍ وحيدة تطلّ على البواخر الراسية أبداً في الميناء. لم يجد القنّاص مصعداً, فاضطر لحمل طرائده واحدةً واحدةً الى الطابق السابع. لم يكن قد انتبه بعد إلى ملامحه التي تغيرت بتغير المناخ. حتى أحلامه تغيرت أيضاً, وتغيرت مصائره, وفسدت الطرائد.
هكذا.. ومن نافذة وحيدة تطلّ على زئير البواخر, راح القنّاص يبتدع طرائدَ أخرى, ويخترع جهاتٍ أخرى. وهكذا, ومن دون أن ينتبه, ازدحمت غرفته الصغيرة بطفولته وذكرياته ووجوه العائلة وطيف المرأة. المرأة التي ناولها براءة الحب الذكري الأول, فناولته تمنّع الحب الأنثوي الأول, ووزع على أصابعها قصائد الشكوى, فوزعت على شرايينه سكاكين الألم.
كل ما اقتنصه من هذه النافذة هو الأسى, كان إذا ما تنفس فإنما يتنفس الأسى, وإذا ما لامس التراب تحول التراب إلى الأسى. كان صغيراً على الأسى, وبالكاد نبت زغب شاربيه, ولم يكن له من صاحب أو صاحبة. تعلم أن يطلي غرفته ببياض الدخان وحيداً, وأن يثمل وحيداً, وأن يسعل وحيداً, وأن يلقي قصائده على الجدران, كلَّ قصائدِه, غيمةً غيمةً, حتى ضجرت الجدران, وتقشّر طلاؤها من رطوبة أنفاسه.
ولأنه لم يتعود المطر, ولم يحب صعود السلالم, فقد كان نادراً ما يغادر غرفته, فيما مقعده الفارغ, مستوحشاً وبارداً يتأمل الطلبة الجالسين في قاعة الدراسة الجامعية. المطر في هذه المدينة كثير على نافذتي.. هذا ما كان يقوله وهو يزيح بلطف ستارة العشرين من عمره. أما المدفأة الكهربائية المنتصبة على سيقانها الثلاثة قرب الطاولة, فلم تكن تدفئه بقدر ما كانت تؤنسه, كان يرى في توهجها واستدارتها شبهاً واضحاً مع قلبه. كانت تدفئ رجليه العاريتين حتى الألم, فيما ترتعش يداه الباردتان حول زناد القصيدة المنتصبة فوق الطاولة الباردة.
لا صوت في هذه الغرفة سوى ألم الصوت, الصوت المنبعث من الزاوية, حيث يصرخ الراديو عالياً ليعلمه بأن نزار قباني قد رحل منذ قليلٍ إلى الموت, وقيل إن الموت رحل بنزارٍ إلى مكان آخر, وقيل إن نزاراً قد قبض على الموت وهو يتسلل إليه من الباب الخلفي للحبّ, واختلفت الروايات, لكن المهم أن نزاراً قد رحل, وأن القنّاص ما زال يجلس قرب الراديو يتصيد أخبار الشعراء, وما زال يحلم بلقائهم, لعله يجد في نفسه ما يشبههم, أو يجد فيهم ما يشبهه.
كان يغادر الغرفة أحياناً, ليزور سريره في حمص, حيث شدّتْه القابلةُ من رأسه الصغير, وحملته من قدميه الصغيرتين, وضربت بباطن كفّها على ظهره, ليتنفس هواءه الأول. لكن البرد هنالك كان أكثر قسوة, فلا يلبث أن يعود حاملاً إلى غرفته غربةً أخرى, ووجوهاً أخرى, ودفئاً مؤجّل.
لم يكن يريد من قنصه الكثير, ولم يحلم سوى بطريدة واحدة يستطيع أن يتدفّأ بفروِها. عامان كاملان وهو مختبئ وراء النافذة, يترقب من منظار قناصته مرور الطريدة. عامان كاملان, كلما اصطاد طريدة ازداد برداً. عامان كاملان وهو يصطاد الأسى.
وأدرك القناصُ اليأس, وأدرك اليأسُ القناص, فأوصد باب الغرفة برتاج الذكرى, وهبط أدراج العزلة, ذاهباً بقصيدته الطويلة إلى البحر. كان نيسان يتمشي على الشاطئ, وكانت الشمس تتمشى بقرب نيسان, وكانت امرأة تقتنص القناص, وكان القناص, وكان الدفء.
ـــــــــــــــ

تمام تلاوي - جريدة تشرين السورية

محمد مظلوم في "حطب إبراهيم"


يخوض الشاعر محمد مظلوم في كتابه الجديد "حطب إبراهيم" مغامرة شديدة الصعوبة, وتجربة سردية نقدية بالغة الإشكالية ومحرضة على فتح الكثير من النقاشات والاستفهامات وربما النيران أيضا حول مسيرة شعراء الثمانينات في العراق وما بعد العراق.
وهو في هذه السيرة الشعرية التي يسرد تفاصيلها ويعيد رسم خطوطها لشعراء الثمانينات العراقيين لا يهادن ولا يقف على الحياد ولا يكتفي بالتوصيف, وإنما يتوغل أبعد من ذلك حيث يقف ليصنف ويحاكم ويمارس النقد ونقد النقد, مستخدما مشرطا بالغ الرهافه ومستندا على مصداقية تتخذ بلاغتها من الوثائق والوقائع التي يدرجها ويفصلها على طاولة التشريح دون إغفال لأسماء الشخوص والأماكن والتواريخ. لأنه لا يؤمن بوجود موضوعية تامة في النقد الثقافي, كما يقول في مقدمة كتابه, "فهناك موضوعيّات تتعدد بتعدد من يطرحها أو يتذرع بها".
ربما يريد محمد مظلوم من هذا أن يترك شهادة لا من أجل التاريخ الثقافي العراقي وحسب, وإنما من أجل التاريخ العراقي برمته, لأن هذه الثقافة كما يتضح لنا من كتابه لم تنتج يوما في تاريخ الدولة العراقية الحديثة بمعزل عن ظروفها السياسية والاجتماعية والتاريخية التي مر بها العراق, كما لم يشتغل الشعراء في العراق يوما من أجل الشعر وحسب بمعزل عن محيطهم, وإنما لطالما تأثروا بما أحاطهم من تلك الظروف, حتى أتت الفترة الصاخبة التي قسمتهم بشكل صارخ كما يفصلها لنا إلى ثلاثة أقسام وهي: شعراء الجلاد أو الحطابين, وإلى الشعراء الضحية أو الحطب, وإلى الشعراء الذين نالت نصوصهم ومسلكياتهم قدرا من ثنائية الجدل فكانوا حطابين تارة وحطبا تارة أخرى. حيث اضطلع القسم الأول منهم بمهمة حمل أبواق السلطة, واضطلع القسم الثاني بحمل تمردهم الداخلي أو حتى صليبهم, فيما حمل القسم الثالث علبة الألوان والفرشاة التي يستطيعون من خلالها تلوين جلودهم بما تقتضيه ظروف البرهة.
لكن المظلوم وإن كان في الظاهر يتحدث من منظور عقدي للأجيال -كما استقيناه من عنوان كتابه- "شعر الثمانينات", إلا أنه في الواقع لا يعتمد هذا الشكل من التصنيف البسيط, وليس لشعراء جيل الثمانينات وحسب, بل إنه يذهب أبعد من ذلك بكثير, حيث يعيد تقسيم أو "تجييل" شعراء حقبة الدولة العراقية كافة, منذ نشوءها عام 1921م وحتى سقوطها على أيدي القوات الأمريكية في نيسان 2003م, وذلك بطريقة جديدة يستلهمها من الباحثين الأمريكيين في علم الاجتماع ويليام شتراوس ونيل هاو, ترتكز أساسا على الشروط التكوينية والحاضنة الوقائعية للفترة التي مر بها كل جيل من الشعراء فتفاعلوا معها وأثروا وتأثروا بها, لتنعكس بالتالي على نتاجاتهم الشعرية والثقافية والتنظيرية. من هنا تنقسم الأجيال داخل الدورة التاريخية الواحدة إلى أربعة نماذج بدئية هي: جيل "البطل" الذي يمثله في سياق هذا البحث شعراء كالزهاوي والرصافي والجواهري الذين شاركوا في تأسيس الدولة وبناءها الثقافي والسياسي واعتلوا مقاعد البرلمانات. وجيل "الفنان" الذي نشأ شعراؤه في ظل رعاية الدولة ومؤسساتها وبداية ازدهارها ليصبحوا بالتالي زعماء وروادا من أمثال السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند وصولا لسعدي يوسف. وثالثا جيل "النبي" الذي ترعرع ممثلوه في بداية الازدهار وقدموا أعمالهم في عهد نضج الدولة ومؤسساتها ما أسبغ عليهم تلك الثقة الزائدة بالنفس وشعور امتلاك الحقيقة المطلقة اللتين يتصف بهما شعراء الستينات والسبعينات. وأخيرا جيل "البدوي" الذي يترعرع في ظل الدولة ومؤسساتها ويعاني في نفس الوقت من مشاعر الإقصاء أو الوصاية من قبل من سبقوه بسبب عدم مشاركته في صناعة الحداثة (القديمة) كما فعل السابقون, ولذا تنشأ لديه تلك النزعة الشديدة إلى التمرد على المسلمات والمنجزات السابقة وعلى القيم المسبقة الصنع, أو حتى نزعة التدمير ولو وصلت لدرجة تدمير الذات.
وحتى بالنسبة لشعراء الثمانينات أنفسهم لا نجده يكتفي بوضعهم في سياق الشكل الذي أوردناه إنما يقسمهم هم أنفسهم في أماكن أخرى من الكتاب تبعا للمناطق التي ينتمون إليها مثلا, أو تبعا للتيارات الفنية الشعرية التي ينتمون إليها, هذه التيارات التي اختلفت وتقاطعت في محيط الشعر, والثقافة والرؤيا إلى العالم والإنسان والأشياء. وهو بهذا التقسيم المتعدد ومتغاير الذرائع ربما يحرر بعض الشعراء من "ربقة الجماعة -بمعناها العصبوي التي قد تتحول إلى رفقة وميثاق وعهد- لصالح فضاء أرحب وآفاق أكثر سعة".
لكن المفارقة تتبدى هنا عندما يقوم المظلوم -الذي لا يعتقد بصوابية التقسيم العقدي للأجيال كما يصرح في كتابه- بإسقاط هذا التقسيم (الشتراوس-هاوي الذي يكيّفه عراقيا) على شعراء الدولة العراقية, فينتج عن ذلك في الواقع تقسيما عقديا دون أن يقصد ذلك ربما, فإذا ما أمعنا النظر في فارق السنوات بين هذه الأجيال الأربعة فسنجده لا يتجاوز العشرة أو الخمس عشرة سنة, مما يجعلنا نتساءل ربما عن سبب إيجاد تسميات موازية لهذه الأجيال. بينما سيكون هذا التجييل أكثر وضوحا مثلا لو أسقطناه على المشهد الشعري السوري, فباعتمادنا على العناصر التي اعتمدها المظلوم لتقسيم الأجيال سنجد أن "الجيل البدوي" للشعراء السوريين ما يزال مستمرا حتى اليوم منذ بدايات الثمانينات, حيث لم تتغير الظروف الموضوعية, ولم تتبدل الوقائع التاريخية أو السياسية ولا المؤثرات الثقافية للشعراء السوريين بشكل واضح طيلة أكثر من ربع قرن, مما يجعل الفارق الثقافي والفكري ضئيلا جدا بين الشاعر الذي بدأ في الثمانينات وذلك الذي بدأ في أول العقد الأول من الألفية الثالثة, فهما ينتميان تقريبا إلى نفس الوعاء التكويني وإلى نفس الظرف الواقعي للدولة السورية. لكن العراق الذي كان –وربما ما زال- يخضع لانقلابات دراماتيكية في واقع الدولة كل عشرة سنوات تقريبا, كان ينتج في كل مرة جيلا من الشعراء يختلف كليا عن الجيل الذي سبقه, تبعا للبرهة التي خاض متغيراتها, ولذا فإن البعض ربما لن يرى مشكلة حقيقية في تقسيم شعراء العراق إلى أجيال عقدية.
هنالك سؤال آخر يمكن أن نطرحه هنا بالنسبة للأجيال انطلاقا من النقطة التي أوردناها سابقا وهو: ماذا عن شعراء التسعينات العراقيين؟ ألا يمكن أن نضمهم للجيل البدوي أيضا, ألم يعانوا من نفس مما عاناه من سبقهم, ألم يتشتت كثير منهم في أصقاع الأرض كذلك من أمثال عبد الخالق كيطان وسعد الياسري وغيرهم؟ وما هو شكل العلاقة بين شعراء الثمانينات والتسعينات, هل يشابه ما كان عليه الحال بين الثمانينيين والسبعينيين, أم يختلف؟ وخصوصا حين نتحدث عن الإقصاء الذي عاناه شعراء الثمانينات في بداياتهم من قبل شعراء السبعينات والستينات. لكن المظلوم لم يشر إلى من جاء من بعد جيله, وهذا راجع برأيي إلى أحد سببين: إما أنه لم يجد حتى الآن تجارب من الجيل اللاحق متبلورة بما يكفي لتستحق الحديث عنها؟ أو أن طبيعة الحياة التي عاشها شعراء الثمانينات والتسعينات منعتهم من تكوين علاقة حقيقية بين هذين الجيلين, وخصوصا أنهم في الغالب عاشوا أشتاتا في أماكن متفرقة من العالم, كما أن جيل المظلوم لم يستلم منابر أو مؤسسات ثقافية تؤسس للاحتكاك الفعال بينه وبين الجيل اللاحق.
وفي الحقيقة فإننا نشعر أثناء قراءة هذا الكتاب أنه موجه أساسا لتأريخ العلاقة بين شعراء الثمانينات بين بعضهم البعض من جهة, والعلاقة بينهم وبين الجيل الذي سبقهم من جهة أخرى. لاسيما أنها كانت علاقة مشحونة بالكثير من الصراعات والإقصاءات المتبادلة والاختلافات الجذرية ثقافيا وفكريا, كما يتضح لنا من قراءة بعض الأحداث التي تم توثيقها هنا. كما نشعر أيضا أن الكاتب يحاول عبر سرد هذه السيرة الجماعية أن يوصل رسائل محددة وواضحة الصياغة إلى من يهمه الأمر, ويحاول إعادة رواية ما التبس من الأحداث أو ما جرى روايتها بطريقة مغلوطة من قبل من امتلكوا المنابر الإعلامية في تلك الفترة. يحاول أيضا أن يخلّص نفسه وجيله من أتون النار التي تلظوا بحميمها سواء بالإقصاء أو بالنقد المتعجرف والمتعالي الذي مورس على تجاربهم وهضَمها حقوقَها. والواضح في الحقيقة أنه يرد ولا يهاجم وأنه يدافع ولا ينتقم, وهذا لا يتبدى من تصريحه في المقدمة وحسب, وإنما أيضا من خلال قراءتنا للكتاب الذي يضم أكثر من دليل على هذا, فهو قد أغفل ذكر أسماء بعض الشعراء في سياق روايته لبعض الأحداث التي قد تسيء إليهم شخصيا وتدينهم أخلاقيا فيما لو انكشفت أسماؤهم, كما أنه قدم بعض الروايات لنفس الحادثة على أكثر من وجه وبالاعتماد على أكثر من مصدر دون أن يصدر حكما شخصيا وإنما ترك فك الالتباس للمعنيين بالأمر أولا أو للقارئ كما فعل مثلا مع عدنان صايغ. كما برر لبعض المثقفين الذي سايروا السلطة موقفهم هذا بالخوف من ألة قمعها الجهنمية, لكنه لم ينس بالمقابل أن يشير بالإصبع الواضحة إلى أولئك الذين سايروا السلطة طمعا في نعماها أو ممالئة لعطاياها. وهو في مطلق الأحوال دعا بشكل صريح وواضح إلى "حوار هادئ وعميق بعيدا عن الإلغاء وعقد المحاكمات, ولكن بمراجعة نقدية تغني الجميع وقد ترضي الجميع ولا تسيء إلى أحد" ص270. كما دعا إلى التحلي بروح التسامح بعيدا عن الثارات التي دأبت السلطة فيما مضى على إيقاظها..ص269.
وبالعودة للحديث عن شعر الثمانينات بالخاصة, فقد قام المظلوم بوضع ما أنتج من الشعر خلال تلك الفترة ضمن عدد من التشكيلات التي حدد خصائص كل منها معتمدا على الشواهد الشعرية وعلى الأسماء التي اشتمل عليها كل منها. فهناك شعراء المنابر الذين أضاءهم النظام بسلطانه, وهناك شعراء الظل الذين اختبأت جذواتهم الابداعية تحت رماد المرحلة, كما أن هناك شعراء المركز وهناك شعراء المحافظات. هناك أيضا ثلاث تيارات فنية أساسية حددها تتمثل بتيار الشعراء الذين تناسلت قصائدهم فنيا من احتمالات قصيدة السياب وتيار قصيدة النثر المنتمي لروادها الماغوط وأنسي الحاج والشعر الوافد, وهناك التيار المحافظ الذي حافظ على التقنيات المتوارثة للقصيدة الكلاسيكية. تحدث أيضا عن دور المقاهي والمنتديات الأدبية في تشكيل الوعي الثقافي وإعادة تشكيل جماعات داخل الجماعات. تحدث أيضا عن السمات التي ميزت الجيل البدوي وشعره, فهو الجيل الذي يعاني من الانهيارات الدراماتيكية والصدمات النفسية والتشتت في التزام المواقف والأفكار, وهو جيل التبدلات السريعة إلى حد التناقض من الموقف من النظام الديكتاتوري, وهو جيل يتسم بروح التدمير, وهو بهذا المعنى جيل الانسحاب من اليقينيات أو جيل اللاعقيدة, وهو جيل الجمع بين الفنون, حيث أن العديد من شعراءه امتلكوا مواهب أخرى وعملوا بها كالرسم والتمثيل, وهو جيل الـ "أنا" المسحوقة, الذي يتحدث شاعره عن هزائمه وخيباته الذاتية بضمير الغائب في كثير من الأحايين. وبرأيي فإن جميع ما سبق من خصائص وتشكيلات ربما نجد له نظائره بشكل أو بآخر على أقران هؤلاء الشعراء في سوريا أولبنان مثلا, لكن السمات الأبرز التي تميز شعراء العراق وهي السمات التي ركز عليها الكاتب, هي ما يتعلق بمشاركة هذا الجيل في الحرب الإيرانية العراقية مشاركة جسدية (وليست عقائدية) ومعاناته من ويلات المدافع والبنادق والخنادق, بالإضافة إلى حالة الرعب الشديد التي سكنتهم في مواجهة الموت إن لم يكن برصاص (الأعداء) فبرصاص الديكتاتور. أيضا هناك حالة الهرب (أو الخروج) من الوطن إلى المنفى المتعدد الذي فرقهم أشتاتا. الأمر الذي ميز أشعارهم بخصائص يكاد يندر وجودها عند أقرانهم في باقي الأقطار, فقد كتبوا ما يسمى بشعر السيرة الذي وصفوا من خلاله ما عانوه من الأهوال, لكن ذلك الوصف تجلى بترميز عالٍ واستخدام الأسطورة المركبة متمايزين بذلك عن استخدامها البسيط أو الساذج لدى الشعراء الرواد, ما أصبغ على أشعارهم ذلك القدر العالي من الغموض, حتى أنهم في الفترة ما قبل المنفى كانوا يتوهمون أن كتاباتهم تلك "هي سطور في رسائل مشفرة ستعبر حدود البلاد, وربما حدود الأرض كلها ليقرأها منقذون من عوالم شتى وأزمنة سحيقة ويحضروا في لحظة واحدة بفعل التعزيمات المكتوبة بوجدان مقهور"ص125..
إن هذا الكتاب يكتسب أهميته برأيي الشخصي من كون كاتبه هو واحد من أهم شعراء ذلك الجيل على الصعيد الفني والانتاجي, ولعله من أوائل شعراء جيله الذين عرفناهم في سوريا إضافة إلى رفيقه في رحلة العبور الكبير من ضفة الوطن إلى ضفة المنفى الشاعر باسم المرعبي, الذين خبرا الفترة بكامل تفاصيلها. هذا بالإضافة إلى أن ما جاء في صفحاته سيكون محرضا على إثارة الكثير من الجدل والنقاشات والأسئلة وخصوصا من قبل من مستهم شفرة المؤلف, وحتى ربما أيضا على تأليف المزيد من الكتب بالأقلام الجارحة لهذا الجيل البدوي المشاكس.. وإذ يضع المظلوم كتابه بين أيدينا اليوم فلا ليتخلص ويخلص جيله من العبء الذي يحمله ضميره الثقافي لتلك المرحلة وحسب, وإنما أيضا ليقدم لنا فهما جيدا وجميلا وممتعا وشاملا عن الشعر العراقي, في فترة كان قد حجب عنا خلالها بفعل قعقعة المدافع, ودخان الحرائق..

ـــــــــــــــــ
تمام تلاوي - ملحق نوافذ (جريدة المستقبل اللبنانية)

الأموال السوداء من أجل الثقافة البيضاء


أعلِن مؤخراً من قبل إحدى الهيئات الثقافية السورية غير الرسمية عن مسابقة للقصة القصيرة بجائزة ذات قيمة مادية عالية. هذه المسابقة يقوم بتمويلها أحد رجال الأعمال المعروفين بأعمالهم ومشاريعهم التجارية, وغير المعروفين بعلاقتهم بالثقافة والأدب. نستطيع هنا أن نطرح سؤالاً ربما يغدو مشروعا في إطار انتشار ظاهرة تمويل المشاريع الثقافية العربية من قبل أصحاب المشاريع غير الثقافية, كهذه الجائزة مثلاً أو كبعض الجوائز والمجلات التي تمول بأموال النفط بأرقام عالية ودعم إعلامي كبير. والسؤال هو: ياترى ما مدى مشروعية الاستفادة من الأموال مجهولة المصدر والنوايا الثقافية من اجل انتاج ثقافة حقيقية, وهل يستطيع المثقفون ذوي الأقلام البيضاء الاستفادة من الأموال السوداء من أجل انتاج حالات ثقافية قوية ومدعومة ومؤثرة في مجتمعهم ومحيطهم, لاسيما وأنهم فشلوا في تحقيق هذا التأثير في العقود الأخيرة التي انطلقوا فيها من المرجعيات العقائدية الشيوعية والتقشفية والعصامية, ومن اعتمادهم على حبر خطاباتهم وحده, أو من مشاريعهم الضعيفة ماديا والتي لم يكتب لها الاستمرار, سواء كانت صحيفة أو مجلة أو دور نشر, الأمر الذي عزلهم بشكل كبير عن مجتمعهم وحذف وجودهم عمليا ليس من الإعلام وحسب وإنما من ساحة العقل العربي الشعبي والرسمي على حد سواء.
إن المثقف الحقيقي اليوم الراغب في تغيير ثقافي ما في عصر الإعلام والمال يقع في الواقع بين فكي كماشة, فهو لكي يستطيع إنجاح مشروعه الثقافي وتوصيله عبر القنوات التي تستطيع إيصال رسائله إلى من يهمه الأمر مطالب بدفع تكاليف باهظة لقاء هذا الانتشار الأمر الذي لا تستطيع تأمينه سوى الأموال القادمة من مشاريع سوداء أو فلنقل في أحسن الأحوال القادمة من مشاريع غير ثقافية لها مآرب ثقافية كتوصيل رسالة فكرية ما إلى مجتمع ما, أو مآرب اجتماعية كتبييض صورة أو تاريخ أصحابها في المجتمع, أو سياسية تقرباً إلى سلطة ما أو تمريرا لرسالة سلطة ما, كما هو الحال في المشاريع الثقافية النفطية. وهذا هو الحلو الأول من الأمرين المرين, الحلو الثاني يتجلى في انزواء هذا المثقف بعيدا عن الحراك الاجتماعي, والاعتماد على الوسائل الثقافية التقليدية لإيصال رسالته, هذه الوسائل الهشة التي لم تعد قادرة على توصيل رسالته حتى إلى جاره أو زميله في العمل أو عائلته.
لكن هل يقبل أصحاب المال والإعلام من المثقف أن يوصل رسالته بأموالهم فيما يوصلون رسائلهم بقلمه, أم أن على المنفعة أن تكون لجانب واحد فقط, وهو بالطبع صاحب رأس المال. المنطق والتاريخ العربي يقولان هذا بالطبع, إن المنفعة هي حصرا لصاحب المال. لكن ألا توجد مناطق وسطى, وأنصاف حلول, وصيغ البين بين. ألا يوجد أصحاب رأس مال ومثقفون يقبلون بصيغة مرر لي لأمرر لك.
يوجد الكثيرون من أصحاب المشاريع الإعلامية والثقافية كالمجلات والمواقع الالكترونية والقنوات التلفزيونية الذين "ضبّوا" في مؤسساتهم عشرات المثقفين وأنصاف المثقفين وأشباه المثقفين... إلخ. فهل استطاع هؤلاء المثقفون قول كلمتهم الثقافية, ومحاربة الخلل, والعمل بنزاهة ملائكية على تغيير المجتمع وفق الرؤيا الثقافية التنويرية التقدمية الحداثوية, أم أنهم انجروا إلى المنطقة من خشبة المسرح التي يراد منهم اللعب فيها.
التجربة الغربية تقول كلاماً آخر, فلطالما كانت المافيا في إيطاليا مثلا تمول المشاريع الفنية والثقافية الكبيرة, كمشاريع النحت والفن التشكيلي والشعر, في ألمانيا هناك مؤسسات ثقافية مدعومة من مؤسسات اقتصادية مشبوهة, وهناك مثقفون كبار في أوربا وأمريكا وحتى أمريكا اللاتينية تقوم الأموال السوداء بترويج كتبهم والقيام بحملات دعائية لإصداراتهم, ومؤتمراتهم ومشاريعهم الثقافية الخاصة. لكن هذه المؤسسات لا تقيّد المثقف أو الفنان ضمن إطار مقولاتها الثقافية فقط, وإنما تتيح له بالمقابل أن يقول كلمته, حتى لو كانت معاكسة أحيانا, كما هو الحال مع كاتب كبير كغابرييل غارسيا ماركيز مثلا.
وبالعودة إلى المشاريع الثقافية العربية الجديدة, نستطيع القول, إنه لا مانع لدينا من تمويل جائزة أو مجلة أو موقع الكتروني من قبل من لا علاقة لهم بالثقافة, ولكن دعوا المثقف يقول كلمته هو أيضا.

ــــــــــــ

تمام تلاوي - جريدة بلدنا السورية

محمود درويش يبدد أوهام ديكة الجن


لا أدري إن كان من السهل لأحد أن يصدق ما حصل في إحدى المدن العربية منذ عدة أيام, لكنه قد حصل فعلا, وهو يتلخص في وقوف أحد الوزراء, المشهورين (بالنزاهة وحسن السمعة ومساعدة الناس), وحيدا بين مئات المواطنين الذين مروا بجانبه دون أن يسأله أحد ما حاجة ما, ودون حتى أن يلقي أحدهم عليه السلام, وإذا سألني أحد كيف ولماذا حصل هذا؟ فالجواب ببساطة أن شاعرا كان يقف بالجوار, أما اسمه فهو محمود درويش. وقد كانت كل تلك الحشود تتجه متزاحمة إليه بعد نهاية الأمسية الشعرية التي كان منارتها.
كلما تكلم محمود درويش عن الطغاة في تلك الأمسية, صفق الحاضرون, وفهم الجميع من يقصد بالطغاة, لكن رجال الأمن الذين كانوا ولا شك منتشرين هنا وهناك لم يجرؤ واحد منهم على الاقتراب من محمود درويش بعد الأمسية لاستجوابه عن مقاصده كما يفعلون عادة مع شعراء حمص الآخرين. أما المحافظ وأمين فرع الحزب فلم يحضرا الأمسية –والحمد لله- لعلمهما الجازم بأنهما لن يكونا محور الاهتمام كما يحصل عادة في المناسبات الأخرى.
نعم, نعم, لقد هزم الشعر السياسة والسياسيين هنا في حمص في يوم الاثنين في الثاني عشر من شباط للعام ألفين وسبعة. ولطالما انتظر شعراء حمص منذ عبد السلام عيون السود وعبد الباسط الصوفي وعبد الرحيم الحصني حتى ابن أخيه عبد القادر الحصني وحسان الجودي وعبد النبي التلاوي وعلاء الدين عبد المولى ومحمود نقشو وغيرهم, أقول, لطالما انتظروا أن يروا بأعينهم هذا الانتصار في هذه المدينة. نعم.. عندما يحضر الشعراء ينسى الناس القادة, وربما نستطيع القول هنا إن لا قيادة تعلو على قيادة الشعراء, وإن صوت الشاعر يعلو على صوت المعركة.
الشاعر الكبير قدمه شاعر كبير آخر هو نزيه أبو عفش, وما كانت قصيدة ولكن شُبِّهَ لنا أنها كذلك. قال لدرويش: نحن في ضيافتك.. فقلب الأدوار بثلاث كلمات, وما كان من درويش إلا أن لبى مطلب صديقه, فقدم لنا على مائدة الشعر أثمن وأجمل ما يمكن أن يقدمه شاعر لضيوفه.
على مدى سنوات وسنوات أقيمت في مدينة حمص السورية أمسيات ومهرجانات شعرية عديدة, استضيف خلالها شعراء سوريون وعرب من مختلف الأقطار, لكن لم يتجاوز عدد الحضور في أحسن الأحوال مائتين أو ثلاث مائة شخص, لدرجة حسبنا معها أن هؤلاء فقط هم عشاق الشعر في تلك المدينة الهادئة, لكن ما حصل في ذلك الاثنين كان حدثا هائلا ومفاجئا, لقد احتشد المئات خارج ثم داخل الصالة الرياضية للمدينة لمشاهدة وسماع محمود درويش وهو ينشد قصائده ضمن جو كنسيّ شديد الإنصات والخشوع, في ساعتين من الزمان هما برأيي الساعتان الأشد بهاء في تاريخ مدينة حمص ثاني أقدم مدينة مأهولة في العالم.
الشعر بخير إذن يا حمص. وديك الجن بخير. أما النخبة فهي الوحيدة التي تعاني من أمراض الوهم والعزلة. هذا ربما ما تبادر إلى ذهني وأنا أرى كل أولئك الناس يتنهدون كلما تنهد محمود درويش, ويبتسمون كلما ابتسم محمود درويش, ويدمعون كلما دمعت كلمات محمود درويش, وينصتون كلما تنفس محمود درويش, ويصفقون برضا الانتشاء كلما صمت محمود درويش.
الأجواء نفسها تقريبا هي تلك التي عشتها في دمشق منذ حوالي ست سنوات, لكن مع مظفر النواب هذه المرة. لا أدري إذن لماذا دائما ما نقول –نحن الشعراء الذين لا جماهير لنا- بأن الشعر الخالص هو للنخبة فقط, وبأن المختلف والإبداعي والمخترق يتناقض مع الحالة الجماهيرية أو الشعبية للقصيدة إن صح التعبير؟ أليس محمود درويش إبداعي ومخترق ومختلف؟ أليس كذلك أيضا مظفر النواب وأضيف عليه صفة المتمرد؟
ديكة الجن, أو شعراء حمص, كانوا حاضرين بكافة أجيالهم وأشكالهم, والبعض حضرت معهم زوجاتهم اللواتي لا يحضرن حتى إلى أمسيات أزواجهن. ولكن عشقهم لدرويش ليس فقط هو الذي دفعهم للقدوم, بل أيضا ذلك التأثير القوي لشعر درويش على أشعارهم الذي سبقه بعشرات السنين وخصوصا لدى شعراء التفعيلة منهم. الكثير منهم أيضا يحفظ قصائد كاملة له, ولطالما تمنى, من لم يقدر له أن يسافر, أو من لم يسمح له عمره بلقاء هذا الشاعر, أن يراه على الطبيعة وأن يسمع صوته فما لأذن قبل أن يودع هذا العالم. كما أن البعض منهم, وهنا أقصد نفسي, كان شعر درويش سببا في زواجه ممن يحب, لأن زوجتي قد أحبتني منذ عشرة سنوات, فقط بعد أن ألقيت على مسامعها شتاء ريتا الطويل.
دمعت عينا زوجتي عدة مرات خلال تلك الأمسية, وكان هذا مبررا طالما هي تستمع إلى مأساة النرجس وإلى خطبة الهندي الأحمر الأخيرة وإلى حالات الحصار وإلى مشهد جنازة الشاعر.. لكن لماذا تدمع عيناكِ الآن يا زوجتي الحبيبة ونحن خارجين من الأمسية؟ قالت: أحلم أن أراك شاعرا له كل هذا المجد. فقلت لها يائسا ومُيَئِّسا: لن ترينني يوما في (مجد) شعري كهذا, فناهيك عن أن محمود درويش مبدع كبير فقد خدمته البروباغندا والمؤسسات السياسية والإعلامية على مدى عقود, الأمر الذي لا أظنه سيتكرر ثانية لأي شاعر عربي في أيامنا هذه. والحقيقة أنني كنت أتساءل هنا في نفسي وأنا أبرر نبوءتي بالفشل الشعري, ما إذا كانت حقا الدعاية المؤسساتية هي التي أوصلت درويش إلى هذا (المجد) أم شعره هو الذي أوصله, أم الأمران معا.
كنت قريبا منه حين قالت له إحدى الفتيات المتزاحمات عليه: وحياتك لن أدعك تخطو خطوة واحدة من هنا ما لم توقع لي على هذا. فوقع لها ولغيرها مبتسما ثم شق بصعوبة بالغة الأمواج البشرية ووصل إلى المرسيدس البيضاء التي كانت تنتظره في الخارج. انطلقت السيارة, وغادرنا محمود درويش تاركا لي ولشعراء حمص الكثيرين (فرحا أكثر) وأسئلة عديدة عن الشعر, لا أدري إن كنا سنقدر على حلها يوما.


تمام التلاوي

صلاح عبد الصبور: الديوان المفقود


عندما أردت أن أستعير ديوان صلاح عبد الصبور كي أستعين به على استعادة المشاعر الأولى التي انتابتني وقت قراءته للمرة الأولى, فوجئت بأنني لست الوحيد الذي لم يعد يحتفظ بديوان هذا الشاعر الكبير, أصدقائي الشعراء وأصحاب المكتبات المنزلية الذين اتصلت بهم اليوم اتفقوا على إجابة واحدة تقريبا, فمنهم من أعاره بلا استعاده, ومنهم من لم يعد يذكر أن يضعه, ومنهم من لا يملكه, ومنهم من بحث عنه ولم يجده, وواحد قال بصراحة أنه تخلص من مجموعات عبد الصبور منذ زمن طويل.
يبدو أن صلاح عبد الصبور ليس من ذلك النوع من الشعراء الذين تحرص على الاحتفاظ بديوانهم, أو تواظب على إعادة قراءته بين وقت وآخر.. لقد استنتجت هذه الحقيقة القاسية اليوم بالذات عندما اتصلت بحوالي تسعة من أصدقائي المثقفين والكتاب في اللاذقية الذين لم أكن لأشك للحظة واحدة أنهم لا يملكون ديوانه. ربما تكون هذه محض مصادفة خالصة, وليست إحصائية علمية يجب أن يؤخذ بها, لكن هذه هي تجربتي الشخصية اليوم التي آلمتني جدا, وخصوصا أن صلاح عبد الصبور هو واحد من الشعراء الذين قرأتهم في بداياتي بحب خالص, وعشت أجواء قصائدهم بحميمية بالغة.
قررت إذن أن أكتب شهادتي هكذا بدون العودة إلى ديوانه, مستهلا إياها بهذا الاستنتاج الذي ينطبق علي شخصيا, فأنا حقيقة قد فقدت ديوانه ذو الغلاف الأحمر منذ حوالي عدة أعوام, ولا أمتلك اليوم من أعماله سوى مسرحية ليلى والمجنون المطبوعة ضمن سلسلة كتاب في جريدة, كما أعترف أنني لم أعد إلى قراءة قصيدة لصلاح عبد الصبور مرتين, ولم أستطع أن أكمل قراءة مسرحية واحدة من مسرحياته الشعرية, وبالنسبة للثانية فربما كان أحد الأسباب هو أنني أميل إلى مشاهدة المسرح أكثر بكثير مما أميل لقراءته. أما بالنسبة لشعره فربما كان السبب هو سوء الحظ لا أكثر, فأنا قرأت صلاح عبد الصبور تماما بعد انتهائي من قراءة بدر شاكر السياب, وكنت في تلك الفترة مجنونا بهذا الأخير, ومفتونا بسحره أيما افتتان, وربما لو أني كنت قد قرأته قبل السياب لتغير الوضع كثيرا. لأنني أعتقد أن شعره هو من النوع القادر على استلابك تماما ما لم تكن مأخوذا بشاعر آخر. وما أتذكره جيدا من انطباعاتي حول قراءتي صلاح عبد الصبور, هو تلك المباشرة الشديدة في التوصيف المشهدي في قصائده, وهذا ما لم أحببه كثيرا آنذاك, خصوصا بعد قراءة شعر السياب المليء بالصور والمجازات اللغوية. أتذكر أيضا ثراء قصائده بالتفاصيل اليومية التي كان يمثل استخدامها في الشعر في زمن صدورها مروقا وخروجا كبيرا على الشعر.
ولكننا مهما اختلفنا على هذا الشاعر الجميل, فإننا لا نستطيع أبدا أن ننكر أنه الشاعر الرائد الذي ترك لنا موعظة عظيمة جدا في الشعر العربي الحديث منذ ديوانه الأول "الناس في بلادي" الذي أثار ضجة كبيرة في مصر الخمسينات: وهي أنك تستطيع استخدام ما تشاء من الأدوات التعبيرية مهما يكن نوع قصيدتك التي تكتبها. فهو قد استخدم في شعره التفعيلة التفاصيل اليومية وأسلوب النقد الساخر -الأداتين اللتين اشتهرت بهما قصيدة النثر- في زمن كان مواكبا لولادات قصيدة التفعيلة تماما كمواكبته لولادات قصيدة النثر, ربما ليقول لنا أيضا إن ما من شيء في الإبداع هو حكر على مبدع.

ــــــــــــــــ

نشرت في مجلة نقد البيروتية - العدد الثاني

موت في ضوء القمر.. وقبر بملايين الجدران

موت محمد الماغوط لم يكن مفاجئا, فجميعنا كان يعلم سوء حالته الصحية في الآونة الأخيرة, لكنه مع ذلك كان موتا صادما. هذا ما يحصل دائما كلما رحل واحد من الكبار, فما نلبث أن نضجّ من جديد به, وبموته, وبما أبدعه خلال سنيِّ حياته, ونعود لنقرأه من جديد, وندرس أعماله من جديد, ونكرمه من جديد -هذا إن كان قد كرم سابقا- وهذه الحالة الأخيرة النادرة تنطبق بالطبع على الماغوط الذي تم تكريمه من قبل الدولة السورية قبل سنتين أو ثلاث, أي قبيل رحيله بقليل.
قبله رحل ممدوح عدوان وقبله سعد الله ونّوس وقبله نزار قبّاني, ورحل بعده بيوم عبد السلام العجيلي, وغدا أو بعد غد سيرحل علي الجندي وأدونيس وشوقي بغدادي وحنا مينة وفايز خضور وزكريا تامر.. لكي يفارقنا جيل إبداعي كامل ترك أثرا أدبيا هائلا على الأجيال اللاحقة, ولكن لم يكن أبدا في هذه الأجيال اسما بحجم الأسماء السابقة. وأعني بحجم الاسم هنا أي انتشارا وتأثيرا ولا أعني بالضرورة الحجم الإبداعي, فربما وجد اليوم مبدعون حقيقيون لا يقلون عنهم موهبة وإبداعا, ولكنهم غير معروفون لأسباب لا مجال لحصرها الآن وتتعلق بالفوارق في الأحوال السياسية والاجتماعية والثقافية بين الزمنين.لعلنا نتذكر الآن تلك اللقطة التسجيلية الفريدة لمحمد الماغوط عندما كان يقرأ كتابا بين يديه فتلقى خبر رحيل صديق عمره, قال له المتكلم في شريط الفيديو: ممدوح عدوان مات.. فالتفت إليه وسأل بصوت راجف: ممدوح؟. ممدوح؟. رددها مرتين وعاد ملتفتا إلى الكتاب ليتابع القراءة.. الأكيد هنا طبعا أنه لم يتابع القراءة ولكنه أيضا باعتقادي لم يحزن كثيرا -أو هكذا بدا- لأنه كان يدرك ربما أنه لاحق بصديقه عما قريب.
أقول هنا إن رحيله لم يكن مفاجئا ولكنه كان رحيلا صادما كأي رحيل عظيم. وصحيح أنني لم أبك لحظة سمعت نبأ رحيله -وهذه عادتي حين يصدمني موت من أحبهم- ولكنني في الحقيقة كدت أن أبكي.. فمحمد الماغوط الذي لم ألتق به في حياتي ارتبط اسمه وسيبقى مرتبطا بمسيرتي الشعرية المتواضعة ما حييت. مع العلم أنني كدت أن ألتقي به مرتين, مرة في حفل تأبين ممدوح عدوان, ومرة في حفل تسلمي (جائزة محمد الماغوط للشعر) العام الفائت, وطبعا فقد منعه المرض مرتين من الحضور.
كانت أمنيتي أن ألتقي به فقط لأقول له: إني أحبك مرتين يا سيدي.. لكنه فعلها ورحل مخلفا في نفسي حسرة أخرى تضاف إلى حسرتي القديمة بعدم لقاء نزار قباني. والمفارقة هنا أن هذين الشاعرين الذين لم ألتق بهما كانا هما الأحب على قلبي بأشعارهما, في حين أنني التقيت وعرفت عن قرب أدونيس وعلي الجندي وشوقي بغدادي وفايز خضور, وغيرهم من الشعراء الذين لم أحب أشعارهم بقدر ما أحببت هذين الشاعرين. ولكن على الرغم من هذا فإنني أعتبر نفسي محظوظا بأنني أتيت في جيل عاصر إلى حد ما جيل هؤلاء الكبار والتقى بأكثريتهم.
لقد أحببت محمد الماغوط مرتين, مرة لأنه واحد ممن نشأت في ظلالهم شعريا, ومرة أخرى لأن واحدا من دواويني يحمل جائزة باسمه. ولقد حزنت لرحيله مرتين, مرة لأنه رحل, ومرة لأنني لم أستطع إدراك لقاءه قبل هذا الرحيل.محمد الماغوط مات, نعم أيها السادة, لقد مات في ضوء قمر أحلامه التي لم تتحقق, فحملها معه إلى قبر بملايين
الجدران
..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في موقع جدار