محمود درويش يبدد أوهام ديكة الجن


لا أدري إن كان من السهل لأحد أن يصدق ما حصل في إحدى المدن العربية منذ عدة أيام, لكنه قد حصل فعلا, وهو يتلخص في وقوف أحد الوزراء, المشهورين (بالنزاهة وحسن السمعة ومساعدة الناس), وحيدا بين مئات المواطنين الذين مروا بجانبه دون أن يسأله أحد ما حاجة ما, ودون حتى أن يلقي أحدهم عليه السلام, وإذا سألني أحد كيف ولماذا حصل هذا؟ فالجواب ببساطة أن شاعرا كان يقف بالجوار, أما اسمه فهو محمود درويش. وقد كانت كل تلك الحشود تتجه متزاحمة إليه بعد نهاية الأمسية الشعرية التي كان منارتها.
كلما تكلم محمود درويش عن الطغاة في تلك الأمسية, صفق الحاضرون, وفهم الجميع من يقصد بالطغاة, لكن رجال الأمن الذين كانوا ولا شك منتشرين هنا وهناك لم يجرؤ واحد منهم على الاقتراب من محمود درويش بعد الأمسية لاستجوابه عن مقاصده كما يفعلون عادة مع شعراء حمص الآخرين. أما المحافظ وأمين فرع الحزب فلم يحضرا الأمسية –والحمد لله- لعلمهما الجازم بأنهما لن يكونا محور الاهتمام كما يحصل عادة في المناسبات الأخرى.
نعم, نعم, لقد هزم الشعر السياسة والسياسيين هنا في حمص في يوم الاثنين في الثاني عشر من شباط للعام ألفين وسبعة. ولطالما انتظر شعراء حمص منذ عبد السلام عيون السود وعبد الباسط الصوفي وعبد الرحيم الحصني حتى ابن أخيه عبد القادر الحصني وحسان الجودي وعبد النبي التلاوي وعلاء الدين عبد المولى ومحمود نقشو وغيرهم, أقول, لطالما انتظروا أن يروا بأعينهم هذا الانتصار في هذه المدينة. نعم.. عندما يحضر الشعراء ينسى الناس القادة, وربما نستطيع القول هنا إن لا قيادة تعلو على قيادة الشعراء, وإن صوت الشاعر يعلو على صوت المعركة.
الشاعر الكبير قدمه شاعر كبير آخر هو نزيه أبو عفش, وما كانت قصيدة ولكن شُبِّهَ لنا أنها كذلك. قال لدرويش: نحن في ضيافتك.. فقلب الأدوار بثلاث كلمات, وما كان من درويش إلا أن لبى مطلب صديقه, فقدم لنا على مائدة الشعر أثمن وأجمل ما يمكن أن يقدمه شاعر لضيوفه.
على مدى سنوات وسنوات أقيمت في مدينة حمص السورية أمسيات ومهرجانات شعرية عديدة, استضيف خلالها شعراء سوريون وعرب من مختلف الأقطار, لكن لم يتجاوز عدد الحضور في أحسن الأحوال مائتين أو ثلاث مائة شخص, لدرجة حسبنا معها أن هؤلاء فقط هم عشاق الشعر في تلك المدينة الهادئة, لكن ما حصل في ذلك الاثنين كان حدثا هائلا ومفاجئا, لقد احتشد المئات خارج ثم داخل الصالة الرياضية للمدينة لمشاهدة وسماع محمود درويش وهو ينشد قصائده ضمن جو كنسيّ شديد الإنصات والخشوع, في ساعتين من الزمان هما برأيي الساعتان الأشد بهاء في تاريخ مدينة حمص ثاني أقدم مدينة مأهولة في العالم.
الشعر بخير إذن يا حمص. وديك الجن بخير. أما النخبة فهي الوحيدة التي تعاني من أمراض الوهم والعزلة. هذا ربما ما تبادر إلى ذهني وأنا أرى كل أولئك الناس يتنهدون كلما تنهد محمود درويش, ويبتسمون كلما ابتسم محمود درويش, ويدمعون كلما دمعت كلمات محمود درويش, وينصتون كلما تنفس محمود درويش, ويصفقون برضا الانتشاء كلما صمت محمود درويش.
الأجواء نفسها تقريبا هي تلك التي عشتها في دمشق منذ حوالي ست سنوات, لكن مع مظفر النواب هذه المرة. لا أدري إذن لماذا دائما ما نقول –نحن الشعراء الذين لا جماهير لنا- بأن الشعر الخالص هو للنخبة فقط, وبأن المختلف والإبداعي والمخترق يتناقض مع الحالة الجماهيرية أو الشعبية للقصيدة إن صح التعبير؟ أليس محمود درويش إبداعي ومخترق ومختلف؟ أليس كذلك أيضا مظفر النواب وأضيف عليه صفة المتمرد؟
ديكة الجن, أو شعراء حمص, كانوا حاضرين بكافة أجيالهم وأشكالهم, والبعض حضرت معهم زوجاتهم اللواتي لا يحضرن حتى إلى أمسيات أزواجهن. ولكن عشقهم لدرويش ليس فقط هو الذي دفعهم للقدوم, بل أيضا ذلك التأثير القوي لشعر درويش على أشعارهم الذي سبقه بعشرات السنين وخصوصا لدى شعراء التفعيلة منهم. الكثير منهم أيضا يحفظ قصائد كاملة له, ولطالما تمنى, من لم يقدر له أن يسافر, أو من لم يسمح له عمره بلقاء هذا الشاعر, أن يراه على الطبيعة وأن يسمع صوته فما لأذن قبل أن يودع هذا العالم. كما أن البعض منهم, وهنا أقصد نفسي, كان شعر درويش سببا في زواجه ممن يحب, لأن زوجتي قد أحبتني منذ عشرة سنوات, فقط بعد أن ألقيت على مسامعها شتاء ريتا الطويل.
دمعت عينا زوجتي عدة مرات خلال تلك الأمسية, وكان هذا مبررا طالما هي تستمع إلى مأساة النرجس وإلى خطبة الهندي الأحمر الأخيرة وإلى حالات الحصار وإلى مشهد جنازة الشاعر.. لكن لماذا تدمع عيناكِ الآن يا زوجتي الحبيبة ونحن خارجين من الأمسية؟ قالت: أحلم أن أراك شاعرا له كل هذا المجد. فقلت لها يائسا ومُيَئِّسا: لن ترينني يوما في (مجد) شعري كهذا, فناهيك عن أن محمود درويش مبدع كبير فقد خدمته البروباغندا والمؤسسات السياسية والإعلامية على مدى عقود, الأمر الذي لا أظنه سيتكرر ثانية لأي شاعر عربي في أيامنا هذه. والحقيقة أنني كنت أتساءل هنا في نفسي وأنا أبرر نبوءتي بالفشل الشعري, ما إذا كانت حقا الدعاية المؤسساتية هي التي أوصلت درويش إلى هذا (المجد) أم شعره هو الذي أوصله, أم الأمران معا.
كنت قريبا منه حين قالت له إحدى الفتيات المتزاحمات عليه: وحياتك لن أدعك تخطو خطوة واحدة من هنا ما لم توقع لي على هذا. فوقع لها ولغيرها مبتسما ثم شق بصعوبة بالغة الأمواج البشرية ووصل إلى المرسيدس البيضاء التي كانت تنتظره في الخارج. انطلقت السيارة, وغادرنا محمود درويش تاركا لي ولشعراء حمص الكثيرين (فرحا أكثر) وأسئلة عديدة عن الشعر, لا أدري إن كنا سنقدر على حلها يوما.


تمام التلاوي

ليست هناك تعليقات: