يذهب محمود درويش وحيداً هذه المرة. ربما لم يعد لديه الوقت ليأخذنا معه إلى الموت كما فعل في جداريته, وربما اعتقد أن المكان الذي يذهب إليه أبعد من طاقتنا على صحبته. لا ندري إن كان قد أخذ ما يلزمه كاملا: ثيابه, وكتبه, وفرشاة الأسنان, وماكنة الحلاقة.. لكن الأكيد أنه ذهب مكتملاً بإبداعه, ومكملا لتجربته الشعرية الناصعة في تاريخ الشعر العربي.
لقد ذهب لاعب النرد لكي يلعب هذه المرة على طريقته مع الموت, بلا شهود ولا جماهير, وإذا كان الموت قد انتظره ليصير ما يريده, فقد أطال محمود على الموت انتظاره كثيرا, هذا لأن الشاعر قد صار منذ زمن طويل ما يريده, أو أنه على الأقل قد صار ما نريده نحن. وهو في مطلق الأحوال قد رمى نرده بمهارة وحرك أحجاره بذكاء شديد, وهزم الموت من قبل أن يصل إليه.
لم يجرؤ الموت طيلة سبعة وستين عاماً على ملاقاته هنا بين أهله ومحبيه, ولهذا كمُنَ له هناك, في أمريكا, واثقاً من جسارة الشاعر على ملاقاته أينما كان. وبالرغم من أن محموداً ذهب إليه وعانقه بشجاعة الشعراء, إلا أن الموت لهشاشته, لم يصدق ذلك في بادئ الأمر, فلم يكن غريبا أن يتردد مرتين في إخبارنا بهذه الواقعة العظيمة.
لقد ذهبت الذريعة الكبرى لشعر التفعيلة, التي يشهرها أنصاره في وجه الكلاسيكيين والنثريين على حد سواء, ذهب الدليل الأكبر على قدرة التفعيلة على تجديد نفسها وابتكار مساحات ابداعية لا تنتهي, تماما كما ذهبت ذريعة النثر الماغوطية العظيمة, وذريعة عمود الشعر الجواهرية. وهكذا ولى بموته بعد نزارٍ عصرُ الشعراء النجوم الذين إذا أقيمت لهم أمسية, أغلِقت الطرقات والساحات, وجلس عشاق الشعر على أرصفة الإصغاء الحميم.
ذهب محمود أخيراً, وتنفس حساده الصعداء, وصار بوسعهم أن يرجموا كلامه بالكراهية, وطريقته الشعرية بالنضوب, وصار بوسع عاشقاته أن يدّعين نسب ولدانهنّ إليه, وصار بوسع القصيدة أن تتحرر بمطلق جمالها من هيبة حضوره.
لم نعرف في العربية شاعراً كان لتجربته هذا التصاعد الدراماتيكي في التطور والإبداع الجمالي, منذ ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" الذي شابته بعض الوقفات العروضية, حتى جداريته التي مثلت واحدة من قمم الإبداع الشعري المعاصر, ولم نشهد لدى شاعر آخر مثل هذه القدرة العجيبة على الانقلاب على الذات الفنية والشعرية, ولعل عزاءنا في رحيله يتمثل اليوم في مجموعتيه الأخيرتين اللتين اتضح بهما أن محموداً قد قال كل ما يريد قوله ابداعيا واستخدم أدواته الفنية كلها وقدم منجزه الشعري مكتملا بجداريته, وحسبه بذلك منجزاً قدم للشعر العربي أجمل ما يمكن تقديمه من شاعر كبير.
التقيت بمحمود مرتين, وصورتي معه معلقة أبداً في مكتبتي, وديواني "شعرائيل" لم يزل على طاولة مكتبه كما أخبرني صديقه الشاعر طاهر رياض, الذي رأى الديوان هناك في زيارته الأخيرة له في عمّان, إنما فاته أن يسأله عن رأيه به, لكنه وعدني أن يفعل حال عودته من أمريكا. لا أدري بالضبط إن كان محمود قد قرأه, أم أنه وضعه في نية قراءته ولم يفعل بعد, هل قرأه كاملا أم لم يكمله لسبب ما, هل أعجبه, أم لا, هل لديه ما يقوله عن تجربتي, أم لا, لكن ما أعرفه تماما, أنني في المرة الأولى التي انتظرت بها عودته, قرر أن لا يعود.
أنا زفرة العربي الأخيرة, هكذا قال في كواكبه الأحد عشر, وقال فيها أيضا: في الرحيل الكبير أحبّكِ أكثر. وها هو الآن يطلق زفرته الأخيرة, ويرحل رحيله الكبير, لا لنحزن, ولا لنذرف المراثي من ورائه, إنما لنهتف: محمود درويش.. في الرحيل الكبير نحبك أكثر.
ــــــــــــــ
تمام التلاوي - جريدة تشرين السورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق