قراءة في ديوان ( العودة ) للشاعرة مرام المصري



ولادة بنت المستكفي تعود إلى اسبانيا

تمام تلاوي

بلا تيجان وبلا صولجان تعود ولادة بنت المستكفي اليوم إلى اسبانيا متجسدة في الشاعرة السورية مرام المصري. وهي واحدة من الشاعرات السوريات المعروفات اللواتي كن في طليعة كاتبات قصيدة النثر السورية منذ أوائل الثمانينات, ونستطيع أن نرى أثر تجربتها في الكثيرات من شاعرات قصيدة النثر السوريات تحديدا, وهي ربما كانت الشاعرة السورية الأولى التي كتبت القصيدة الحسية بفنية عالية وشفافية خالية تماما من الابتذال اللفظي الذي مارسته كثير من الشاعرات رغبة منهن ربما في لفت نظر القارئ إلى شعرهن إنما بوسيلة غير شعرية. صدر لها في بداية الثمانينات مجموعة مشتركة مع منذر مصري ومحمد سيدة بعنوان ( أنذرتك بحمامة بيضاء ) ثم سافرت إلى فرنسا لتصدر بعد سنوات وبالتحديد عام 1997 ديوانها الثاني (كرزة حمراء على بلاط أبيض ) تبعه ديوان ( أنظر إليك ) عام 2000 . وقد لاقت هذه الدواوين إعجابا عاليا من مختلف الجهات فحصدت الجوائز وترجمت إلى أكثر من سبع لغات. أما ( العودة ) فهو عنوان مجموعتها الشعرية الرابعة الصادرة باللغتين معا العربية وترجمتها الاسبانية عن دار إسكريتو الاسبانية. في هذا الكتاب الذي يتكون من خمس عشرة قصيدة, تختبر مرام مصري مقدرتها الشعرية على كتابة القصيدة الطويلة, هي التي عودتنا في مجموعاتها السابقة على القصائد القصيرة التي لا تتجاوز أطولها عشرين سطرا. لكنها لا تكتفي بهذا الاختلاف وحسب إنما تتجاوزه إلى شيء آخر يتمثل في النبرة العالية للجملة الشعرية الذي يفاجأنا منذ مطلع النص الأول:
أنا ملكة هذا المكان
أعود إليه بدون تيجان
سلطانة بدون صولجان
جارية بإكليل من ياسمين دمشق
أرقص وأغني..
بهذا المطلع القوي تسحب قارئها إلى قلب المعنى مباشرة, وتدخله إلى حمى الحالة الشعرية للنص:
جسد الشمس أنا
حارة كدمع رجل فقد مملكته
كدم الولادة
حارة أنا
كالشهوة الأولى
أرقص وأغني..
الأمر الجديد الآخر الذي يلحظه من قرأ الأعمال السابقة للشاعرة هو اعتمادها هنا تقنية التكرار اللفظي التي استعملتها في أغلب قصائد هذه المجموعة, ولعل القصيدة التي برزت بها هذه التقنية بشكل أكبر من غيرها هي قصيدة ( مدن ) التي تتكون من ستة عشرة سطرا, مرت بها كلمة ( مدن ) اثنتا عشرة مرة, وكلمة ( مدينة ) ثلاث مرات, لتؤكد ربما عبر حالة من التكرار اللفظي متصاعد النبرة على حتمية وقوة علاقتها بالمدن الاسبانية المختلفة التي غنتها في ديوانها.
القصائد في مجملها تعبر عن حالة عودة إلى المدن الإسبانية المختلفة غرناطة, قرطبة, مرسية, والأخريات, لكن هذه العودة ليست حيادية أبداً, فالشاعرة ( السورية ) تستغل فنيا منبت ولادة بنت المستكفي الأموي لربط دمشق بهذه المدن جميعا:
دمشق أعارتني شفاهها
ولسانها وحلقها وصدرها
لكي تناجيكن
أعارتني خلخالها لكي ترقص لكن
حملتني ورودها لتُزرع في جنائنكن
بهذا المعنى تعود ولادة إلى اسبانيا لكن مع فارق كبير هذه المرة, فهي تعود امرأة محملة بالأسى ومجردة من التاج, تعود لتتقلب في سريرها تناجي الأغطية والشراشف والذكريات والغرف ومفردات الحياة المختلفة ولا أحد يبالي. لم تعد ولادة تلك المرأة التي تصلح للمعالي, كما كان مطرزا بخيوط الذهب على جانبي ثوبها:
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكّنُ عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها
كما أنها لم تعد تلك المرأة التي يتنافس عليها ابن زيدون مع آخرين من وزراء الدولة. إنما عادت بجسد مر عليه لصوص الأعوام وببطن تكورت فيه الحياة. عادت امرأة معاصرة عادية ومغلوبة تبحث عن الحرية التي لم تذق طعمها يوما, وما فتئت تسأل عنها:
هل هناك طريقة استعمال لمن هم مثلي
من قرؤوا عنها
من سمعوا بها
من جاعوا
من بردوا
من ضُربوا
من خسروا لأجلها..
عادت امرأة لا سرير لها سوى أرصفة الأمل تطلب العزاء والحياة من فرط الأسى:
امرأة كل الرجال أنا ولا رجل لي
امرأة كل البلاد أنا ولا بلد لي
امرأة اللذات والألم
أعود لذراعيكِ
لحاضركِ
لأذكرك بي
فأتذكرني..
وبالرغم من النفس الطويل الذي يميز هذه القصائد إلا أن الشاعرة حافظت على لمستها المميزة والمعروفة عنها في خواتيم المقاطع, هذه اللمسة التي تحول تراب الكلام إلى ذهب المعنى, كما نرى مثلا في هذا المقطع:
إن لم تأت
سأرش دموعي ملحا للبحار
وأجعل من الصدف الأبيض بيتي
إن لم تأت حبيبي هذه المرة
سألبس ثوبي الأحمر الذي تحبه
وأعرّي كتفي
لرجل آخر..
هو: لا..

لعل الألم والمرارة سمتين بارزتين في شعر مرام المصري, لكنها استطاعت توظيفهما هذه المرة عبر قناع ولادة بنت المستكفي لتقول عبره مأساتها الشخصية, وهي تعبر عن رثائها للعالم المديني ملبسة إياه بدوره قناع الأندلس بمدنها التاريخية المعروفة. مرام لا تطرح شعارات رنانة ولا تطالب بعودة الأندلس مثلا, إنما تعود هي كذات إنسانية إلى مدن سكنتها في الماضي, لتسكنها المدن بدورها هذه المرة, إنها الذات التي تحب وتحزن وتتذكر وتجوع وتعرى وتخيب.
في كل مجموعة من مجموعات الشاعرة السابقة هناك مقولة شعرية تقولها بشكل فني عبر تصاعد درامي مدروس منذ بداية المجموعة وحتى نهايتها, لتشكل في النهاية ديوانا شعريا متكاملا في وحدة عضوية وفنية, وهذا بالضبط ما فعلته في ( العودة ) لكننا نلاحظ هنا أن القصائد في أغلبها مؤرخة زمانيا ومكتوبة خلال شهر واحد تقريبا, الأمر الذي زاد ربما في اللحمة التعبيرية واللغوية فيما بينها.
هناك الكثير مما يمكن قوله حول هذا الديوان بانتظار صدوره في الطبعة العربية, لكننا نختم بهذا المقطع:
كيف لي أن أعلق على أشجارك فاكهتي
وعلى أغصانك ورودي؟!
كنت وحيدة وسأظل
كشجرة عصيت على النار والريح..

ـــــــــــــ

نشرت في صحيفة تشرين السورية 6 أيلول 2008

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

جميل جدا .. لم أعرف انك من كتبت هذا ,,