بازي النسوان: قناص يصطاد الجمال ويتلذذ بالهزيمة


بجيش من النساء وقطيع من الحزن والذكريات, يطل علينا الشاعر العراقي محمد مظلوم حاملاً ديوانه الجديد "بازي النسوان" الصادر حديثاً عن دار التكوين (2008). وأقول ديواناً وليس مجموعة شعرية, لأنه يتكون من قصيدة واحدة تمتد على مساحة 140 صفحة من الشعر الخالص, الذي يحمل نفَساً ملحمياً محموماً بدراما صاخبة ولغة متدفقة لا تهاود إلا لصالح الشعر, ولا تستسلم إلا للمرأة. المرأة التي يتوجه إليها هذا السومري تمتد منذ نساء الأساطير كهيلين وديانا وجوليا وليليث وصولاً إلى "مراهقة ترى العالم والرجال/ من الطوابق العليا للباصات" ص19.
يستهل محمد مظلوم كتابه على عادته في أغلب دواوينه باقتباسات شعرية أو نثرية تشكل الفاتحة أو المدخل إلى البناء الفني للديوان, وهو هنا يقتبس أربع شواهد لكل من القلقشندي وأبي تمام وأبي نؤاس وعبد القادر الكيلاني تتعلق جميعها بطائر الباز, هذا الكائن الشعري الذي يشكل مفتاح النص برمته ويبني عليه الشاعر الصورة الكلية لملحمته.
ينقسم الديوان بشكله الفني العام إلى جزئين رئيسيين يفصلهما الفراغ الطباعي في الصفحة 80. يعتمد غالباً في جزئه الأول على السطور أو الجمل الشعرية القصيرة, عالية النبرة والأكثر كثافة من حيث بناء الصورة, فيما يميل الجزء الثاني إلى الجمل الشعرية الطويلة التي تمتد إلى عدة أسطر, وتعتمد على سردية الخطاب واستخدام أدوات اللغة العطفية والاسئنافية والسببية والاستدراكية, إنما بعيداً عن الإنشائية والاستخدام المجاني للغة. لأن المظلوم كما خبرناه منذ أعماله السابقة شاعر يمسك جيداً بأدواته الشعرية ومواده البلاغية والنحوية, ولا يسمح لجمله بالمرور إلى الورقة دون رقابته الفنية الصارمة. هذا الشكل العام للديوان يذكرنا بديوانه "أندلس لبغداد" الذي يتألف كذلك من قصيدة طويلة واحدة يستخدم بها الشاعر عدته الكاملة وينوع فيها, كما هو الحال هنا, على الأشكال الشعرية المختلفة: العمود والتفعيلة والنثر, وإن كان الأخير هو الغالب.
هذا هو الديوان السابع للشاعر, لكنه الديوان الأول من حيث توجهه المباشر إلى المرأة, رغم بعض القصائد التي تخللت الدواوين السابقة. ربما لأن الشاعر سأم سيرة الحرب والمنفى التي خاضها حياة وشعراً منذ الثمانينات وها هو يخرج "من الحرب إلى الحبّ/ كراءٍ رأى ما رأى / وتيقن من خراب أعياده" ص8, عائداً "في آخر قارب/ من سيناريو خائف لحرب أهلية/ بين بغداد الشرقية والغربية/ .../ جريح الهوية والذكريات" ص87, لهذا فقد آن الآوان ليلتفت في عزلة المنفى إلى ذاكرة جسده بعدما أصبح مفلساً "من النساء/ فلأكتب عنهن في ندرتهن بأيامي هذه / كيهودي يقلب دفتر حسابه القديم بحثا عن ديون مهملة / كعطلة الأشجار في سماء موحلة"ص9.
لكنه مع هذا, لا يستطيع النجاة من حمى هذه الحرب الأهلية التي كما تغلغلت في حياته, تسللت إلى علاقته بالمرأة كذلك, إنما هي حرب أهلية جديدة أخف وطأة لا تقسمها الحروب "أنتِ بغدادي الشرقية والغربية التي لا تقسمها الحروب ولا النساء"ص88, إنها "حرب أهلية لا تنقصها الموسيقى" ينشغل خلالها "بكل تلك الشؤون والذكريات"ص9. إذن فهي حرب أهلية مع امرأته, حرب يخوضها بينه وبين جسده وشهواته وذكرياته يقبل عليها كبازي أرهق بوصلته "بضراوته وتضوره" ص12.
وعلى الرغم مما يتظاهر به هذا البازي من الضراوة, والرغبة في الهتك, وسعار الشهوات, وعلى الرغم من الأقنعة العديدة التي يحاول تقنيع وجهه بها كما في قوله: "أنا سومري أكلت لحمه النسور لكنني بعثت طائراً آخر بجناحين من هبوب شرس وبي ضراوة الهتك وهي تثب منتفضة كلما لمعت سُرّة رومية أو ركبة فارسية أو كتف صحراوية"ص84, وفي قوله: "أنا باريس الطروادي في ذريعة اليونان أدفن هيلين عند سواحل الأناضول, وألاحق أوفيد الروماني في معتقل آثامه الشاسعة"ص35, وفي ادعائه: "بي لوثة كازانوفا"ص35, وادعائه أن به:"لذة الماركيز المسعورة بسم الأساطير" ص46, إشارة إلى الماركيز دو ساد الذي يعقب عليه في مكان آخر من الديوان: "أنا ماركيز جسدك/ سجني أوسع من مسرح/ يتدافع في انهياره الجن والإنس ملتصقين" ص76, أقول, إنه بالرغم من كل هذه الإدعاءات, إلا أنه يسقط أخيراً في فخ حقيقته حينما يعرج على دون جوان قائلاً: "دون جوان متزوج من الندم منذ فجر العالم" ص45. ليس هذا وحسب بل يسقط أيضا في سلسلة من الاعترافات التي تشي بندمه الكبير وعذابات ذكرياته, كما يقول: "لا أصيد لغريزة المتعة أو لأمتعة سفر عابر, لا طلبا لجائزة..../../بل لأنني أبحث عن شِقَّة نفسي وشقاق أيامي../... / أبحث عنك وكأنني أضعتك ذات يوم ولا أنوي أن أضيعك مرة أخرى"ص95, وقوله: " سأكون معك.../ كأنني أعثر على أبديتي الضائعة"ص107, وقوله:"إنها ذبحة النَّوح من عهد نُوح"ص96.
من هنا نعثر على ماهية البحث التي يسِمُ بها هذا البازُ قنصَه, فهذا "الفاتك قبل الأربعين, الناسك بعد الأربعين" ص29, لا يبحث إلا عن نساء ذاكرته, جناحه الأيمن هو الحزن والأيسر هو الندم, هؤلاء النسوة اللواتي: "إليهن مشيت مع النهر وصحبة الغروب/ .../ وابتسمت لرقصة الظلال/ على طبول النهارات في كرادة الستينات/ وطاردت ظلالهن الصاعدة ببطء/ نحو مراهقة ترى العالم والرجال/ من الطوابق العليا للباصات"ص19 , النسوة اللواتي يندم عليهن بعدما آلت حياته إلى الغروب: "قبل العشرين/ كان الجميع ينافسني على امرأة وحيدة/ ترعى قطيعا من العشاق/ في ظهيرة مدرستها./ وبعد الأربعين/ لا أحد منهم/ يشاركني بقطيع من النساء/ يرتعن في عسل الغروب" ص51. إنه البحث عن الطفولة الضائعة, وعن نقطة البدء الأولى: "وأهيم في سهول خيالات/ كنبي يتذكر مرعى شياهه" ص78, ويعترف: "احضنيني بآبارك لألتصق بسرتك كما لو أنني أسترجع الحبل السري صلة لبداياتي" ص93. كل هذا لسبب وجيه: "إنها طفولة مريرة/ كعصارة شجر الصبر/ على حلمة تطرد فم الرضيع/ ليمضي حياته رجلا مفطوما/ ومهيجا بالذكريات" ص32.
الأنثى لدى محمد مظلوم تتقنع بأقنعة عديدة كذلك, فهي في مفهومه لا تقتصر على المرأة الحاضرة لحماً ودماً بين يديه, بل يرى فيها كل النساء بدءاً من نساء الأساطير والتاريخ وصولا إلى حبيبته: "لا أمتلك لغزاً لليلى المريضة بعشق الغرباء/ أو لجوليا الأسيرة في ثياب الملكات/ فأجمعهن بكلمة حبيبتي" ص33.
العلاقة بين الرجل والمرأة عند الشاعر هي علاقة جدلية في مفهومه, قائمة على المواجهة والتحدي والقنص والأخذ والرد, إنه يدجج نفسه بكل الرجال الأسطوريين والتاريخيين ويدججها بالمقابل بكل النساء المتفردات تاريخياً, ليخوض معركة قوامها مائة وأربعون صفحة, والنهاية مفاجئة, إنها النهاية التي لا نتوقعها من عنوان الديوان ولا في صفحاته المائة الأولى, إنها هزيمة الرجل الذي لا يرى الأنثى في نهاية رحلة القنص "سوى سرب من الذكرى يفرّ مدججاً بسراب" ص124. إنه إغواء معكوس " لعبة أجيد فيها الهزيمة, بانتظار غزواتك لي/ سأكون هذه المرة طيّعا كملك أتعبه الضجر والحب" ص125, "حيث المرأة بارتغابها أكثر فتكا بالرجل من الرجل بأعدائه ونفسه" ص97.
هكذا ومع نهايات الديوان يعلن المظلوم هزيمته النكراء في مواجهة المرأة, لكنه يعلن بالمقابل انتصاراً من نوع آخر, إنه الإنتصار الشعري والفني الذي نلمسه في كل سطر بهذه الملحمة.
اللغة الشعرية عند المظلوم لغة غنية بالصور, فالصورة الكلية للقصيدة تضم مئات الصور الجزئية الموظفة لصالح الأولى, وهي في العموم صور مكثفة, تتعدد مستوياتها الدلالية, وتأخذ المتلقي إلى أكثر من وجهة. قاموس المفردات قاموس غني ومتنوع أيضاً, ونستطيع الاستدلال على أكثر من واحد عبرها, فهناك المفردات الأسطورية, والتاريخية, التي ذكرناها آنفاً, وهناك قاموس المفردات اليومية التي نراها في بعض الصور الحسية مثل: "ها أنا أرى أعلى سروالكِ يُسفِر عن سرّتك" ص109, "عاداتي وأنا أرفس الغطاء نحوك أو أنتزع المخدة من بين ركبتيك وأدسّ بدلاً عنها إحدى ركبتي" ص119, "أما زلتِ مصرّة على منعي من إتيانك في الحمّام وغشيانك تحت الماء.../../ ألم تحمّميني عندما كنت أعود مغبرّاً من تراب الحروب" ص120. هنالك قاموس المفردات المعجمية أيضاً مثل: الفواخت, فيشلة, زبرج, حوثرة, الرهل, الزهل, نشوغ... وغالباً ما وظف هذه الكلمات ضمن امتدادها التاريخي, حين يستدعي تاريخ الإيروتيكا العربية شعرياً في قصيدته, ليعطي الصور دلالاتها من خلال الألفاظ الواردة في الأدبيات الإيروتيكية العربية. وعلى نهج هذه الأدبيات يتطرق الشاعر إلى بحث لغوي عن أصل تسميات العضوين الجنسيين لدى الرجل والمرأة ومرادفات تسميتيهما, كما نجد في الصفحتين الخامسة والخمسين, والتاسعة والخمسين. كما يصف هذين العضوين وصفا شعرياً إيروتيكياً متناهي الجدّة والإبداعية. ولا ينسى كذلك أن يستفيد من الإيقاع اللفظي الداخلي للمفردات عن طريق توظيفه للجناسات والطباقات ضمن سياق الجملة مثل: "فرأت ليليث ليلى/ مزجت ليلى بليلي"ص65, "يحرث أسرار سيرتك/ ما بين السرة والسرير" ص73, "ويأتي حرثه بحوثرة ساخنة"ص74, "أنت في نومك وأنا في يومك"ص85.
قد نختلف مع الشاعر في بعض تقنياته أحيانا وقد نتفق أحيانا أخرى, لكنك تشعر خلال قراءتك لهذا الديوان أن محمد مظلوم يحشد كل طاقاته اللغوية والبلاغية والمعرفية لصالح هدفه الجمالي والشعري. تشعر أنه يحاول كتابة ملحمته الشخصية من خلال العديد من الملاحم التي يتطرق إليها في النص, ويصوغ ذكرياته وخيباته وأحلامه بيدٍ حريفة عالية اللياقة, لا تعوزها الموهبة ولا تنقصها الأدوات القادرة على اجتثاث الشعرية من منابعها الأصيلة. بازي النسوان هو سيرة ملحمية لزير نساء في خضم حرب أهلية, لا تنفك عن اكتشاف عشرات الأشياء الجديدة بها, كلما أعدت قراءتها.

ـــــــــــــــــ

تمام تلاوي - ملحق نوافذ - جريدة المستقبل اللبنانية

ليست هناك تعليقات: