الأموال السوداء من أجل الثقافة البيضاء


أعلِن مؤخراً من قبل إحدى الهيئات الثقافية السورية غير الرسمية عن مسابقة للقصة القصيرة بجائزة ذات قيمة مادية عالية. هذه المسابقة يقوم بتمويلها أحد رجال الأعمال المعروفين بأعمالهم ومشاريعهم التجارية, وغير المعروفين بعلاقتهم بالثقافة والأدب. نستطيع هنا أن نطرح سؤالاً ربما يغدو مشروعا في إطار انتشار ظاهرة تمويل المشاريع الثقافية العربية من قبل أصحاب المشاريع غير الثقافية, كهذه الجائزة مثلاً أو كبعض الجوائز والمجلات التي تمول بأموال النفط بأرقام عالية ودعم إعلامي كبير. والسؤال هو: ياترى ما مدى مشروعية الاستفادة من الأموال مجهولة المصدر والنوايا الثقافية من اجل انتاج ثقافة حقيقية, وهل يستطيع المثقفون ذوي الأقلام البيضاء الاستفادة من الأموال السوداء من أجل انتاج حالات ثقافية قوية ومدعومة ومؤثرة في مجتمعهم ومحيطهم, لاسيما وأنهم فشلوا في تحقيق هذا التأثير في العقود الأخيرة التي انطلقوا فيها من المرجعيات العقائدية الشيوعية والتقشفية والعصامية, ومن اعتمادهم على حبر خطاباتهم وحده, أو من مشاريعهم الضعيفة ماديا والتي لم يكتب لها الاستمرار, سواء كانت صحيفة أو مجلة أو دور نشر, الأمر الذي عزلهم بشكل كبير عن مجتمعهم وحذف وجودهم عمليا ليس من الإعلام وحسب وإنما من ساحة العقل العربي الشعبي والرسمي على حد سواء.
إن المثقف الحقيقي اليوم الراغب في تغيير ثقافي ما في عصر الإعلام والمال يقع في الواقع بين فكي كماشة, فهو لكي يستطيع إنجاح مشروعه الثقافي وتوصيله عبر القنوات التي تستطيع إيصال رسائله إلى من يهمه الأمر مطالب بدفع تكاليف باهظة لقاء هذا الانتشار الأمر الذي لا تستطيع تأمينه سوى الأموال القادمة من مشاريع سوداء أو فلنقل في أحسن الأحوال القادمة من مشاريع غير ثقافية لها مآرب ثقافية كتوصيل رسالة فكرية ما إلى مجتمع ما, أو مآرب اجتماعية كتبييض صورة أو تاريخ أصحابها في المجتمع, أو سياسية تقرباً إلى سلطة ما أو تمريرا لرسالة سلطة ما, كما هو الحال في المشاريع الثقافية النفطية. وهذا هو الحلو الأول من الأمرين المرين, الحلو الثاني يتجلى في انزواء هذا المثقف بعيدا عن الحراك الاجتماعي, والاعتماد على الوسائل الثقافية التقليدية لإيصال رسالته, هذه الوسائل الهشة التي لم تعد قادرة على توصيل رسالته حتى إلى جاره أو زميله في العمل أو عائلته.
لكن هل يقبل أصحاب المال والإعلام من المثقف أن يوصل رسالته بأموالهم فيما يوصلون رسائلهم بقلمه, أم أن على المنفعة أن تكون لجانب واحد فقط, وهو بالطبع صاحب رأس المال. المنطق والتاريخ العربي يقولان هذا بالطبع, إن المنفعة هي حصرا لصاحب المال. لكن ألا توجد مناطق وسطى, وأنصاف حلول, وصيغ البين بين. ألا يوجد أصحاب رأس مال ومثقفون يقبلون بصيغة مرر لي لأمرر لك.
يوجد الكثيرون من أصحاب المشاريع الإعلامية والثقافية كالمجلات والمواقع الالكترونية والقنوات التلفزيونية الذين "ضبّوا" في مؤسساتهم عشرات المثقفين وأنصاف المثقفين وأشباه المثقفين... إلخ. فهل استطاع هؤلاء المثقفون قول كلمتهم الثقافية, ومحاربة الخلل, والعمل بنزاهة ملائكية على تغيير المجتمع وفق الرؤيا الثقافية التنويرية التقدمية الحداثوية, أم أنهم انجروا إلى المنطقة من خشبة المسرح التي يراد منهم اللعب فيها.
التجربة الغربية تقول كلاماً آخر, فلطالما كانت المافيا في إيطاليا مثلا تمول المشاريع الفنية والثقافية الكبيرة, كمشاريع النحت والفن التشكيلي والشعر, في ألمانيا هناك مؤسسات ثقافية مدعومة من مؤسسات اقتصادية مشبوهة, وهناك مثقفون كبار في أوربا وأمريكا وحتى أمريكا اللاتينية تقوم الأموال السوداء بترويج كتبهم والقيام بحملات دعائية لإصداراتهم, ومؤتمراتهم ومشاريعهم الثقافية الخاصة. لكن هذه المؤسسات لا تقيّد المثقف أو الفنان ضمن إطار مقولاتها الثقافية فقط, وإنما تتيح له بالمقابل أن يقول كلمته, حتى لو كانت معاكسة أحيانا, كما هو الحال مع كاتب كبير كغابرييل غارسيا ماركيز مثلا.
وبالعودة إلى المشاريع الثقافية العربية الجديدة, نستطيع القول, إنه لا مانع لدينا من تمويل جائزة أو مجلة أو موقع الكتروني من قبل من لا علاقة لهم بالثقافة, ولكن دعوا المثقف يقول كلمته هو أيضا.

ــــــــــــ

تمام تلاوي - جريدة بلدنا السورية

ليست هناك تعليقات: