إيديث بياف: من الأزقة الضيقة إلى صالات الغناء الواسعة



"الصبية" أو La Môme هو الفيلم الثاني في تاريخ السينما الذي يتناول حياة المغنية الفرنسية الأسطورة إيديث بياف. الفيلم الأول كان من إنتاج عام 1983م تحت عنوان "إيديث ومارسيل" وتركزت مجرياته على معالجة العلاقة الغرامية الشهيرة التي جمعت ايديث بياف ببطل الملاكمة العالمي مارسيل سيردان, وقد قام بإخراجه المخرج الفرنسي الكبير كلود ليلوتش الذي ذاع صيته عام 1966م إثر فيلمه "رجل وامرأة" الذي نال عليه العديد من الجوائز العالمية منها جائزة مهرجان كان للسينما وجائزتي أوسكار عن أفضل قصة وأفضل فيلم أجنبي.
الآن وبعد أكثر من عقدين على إنتاج الفيلم الأول, يطل علينا المخرج الفرنسي الشاب أوليفر داهان (40 عاماً) بفيلمه "الصبية", الذي ينظر إلى حياة إيديث بياف نظرة غير تأريخية, وإنما نظرة تتوخى أهم الأحداث المحورية التي مرت بها بياف, وكان لها تأثيرها البالغ في مسيرة حياتها الغنية والمليئة بالمفارقات التي تقترب من حدود الملحمة أكثر من كونها قصة حياة شخصية لمغنية شهيرة.
علاقة المخرج أوليفر داهان بالفن والموسيقى سابقة على علاقته بالإخراج السينمائي, فداهان المتخرج عام 1991م من أكاديمية الفنون في مارسيليا, هو رسام بالأصل, وقد أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية للوحاته, كما عمل في الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام مثل فيلمي amongst others و Zucchero بالإضافة لعمله لعدد من شركات الإنتاج الموسيقي مثل سوني وفيرجين. ولهذا ربما كانت لديه تلك الحساسية الموسيقية التي جعلته يصر على تقديم إحدى عشرة أغنية من أغاني الفيلم بالتسجيلات الأصلية لصوت إيديت بياف: أعتقد أنه من المستحيل إيجاد صوت يستطيع مجاراة تلك الفرادة المميزة لصوت بياف.. هكذا يقول داهان, ويردف كذلك, أنه أراد أن يحتفظ بالأصالة التوثيقية لعمله قدر الإمكان. ومع هذا فهناك أربع أغان في الفيلم قامت بأدائها المغنية جيل ايغروت بالإضافة إلى أغنية أدتها الطفلة كاساندرا بيرغر وظهرت على لسان الممثلة الطفلة باولين بورليت التي لعبت دور ايديت بياف الطفلة في الفيلم.
ساعتان وعشرون دقيقة من السينما الحقيقية, تسلب الأنفاس, وتدور بنا في أزقة باريس وشوراعها ومواخيرها, وتنتقل بنا من بيلفيل إلى نيويورك ومسارح الغناء الفخمة, بدءاً من عشرينات القرن الفائت وحتى سنة رحيل إيديث بياف عام 1963م, لنعود بعدها, بالكاد, إلى التقاط أنفاسنا بعد نهاية المشهد الأخير وإضاءة الصالة.
يحكي الفيلم عن المسار الاستثنائي لإيديث بياف من الطفولة إلى المجد, من انتصاراته إلى جروحه, عبر قدر أكثر غرابة من رواية, يكشف مساره عن روح فنانة وقلب امرأة..
والدة هذا "الدوري الصغير" -كما يعنيه اسم بياف بالفرنسية الدارجة- هي مغنية متواضعة مدمنة على الكحول تغني متشردة في شوارع باريس, فلا يجد والدها لاعب السيرك الجوال لويس الفونسو غارديون (يجسد دوره جين باول روف) وسيلة لحفظ الصغيرة من إهمال أمها سوى أخذها إلى جدتها لأمها التي تعمل طاهية في أحد المواخير, لتتولى بائعات الهوى رعايتها. يعود الأب بعدها بسنوات لأخذ ابنته منهن في مشهد درامي شديد الإيحاء والتأثير, وليستفيد من صوتها في عروضه البهلوانية الفردية في الشوارع بعدما تم طرده من الفرقة. يكتشف موهبتها لويس لوبلي أحد أصحاب الملاهي الليلية, الذي يمثل شخصيته هنا الممثل جيرارد ديباردو, ويجلبها للغناء لديه, فيقتل بعدها في ظروف غامضة. يقوم بعد ذلك الموسيقي المحترف ريموند أسّو (يجسّده ببراعة الممثل مارك باربو) بتولي بياف ويدخلها إلى عالم صالات الغناء الراقية ومن ثم الشهرة السريعة.
الكحول والحزن هما الشريكان الأهم لحياة بياف المأساوية. طفلها الذي تفقده إثر إصابته بالتهاب السحايا, علاقاتها الفاشلة مع الرجال. شخصيتها المضطربة, وعصبيتها ومزاجيتها, نجاحاتها الفنية, علاقتها بالملاكم الفرنسي العالمي مارسيل سيردان (يجسّده جين بيري مارتن) الذي تلتقيه في أمريكا, وموته الدرامي بعد ذلك في حادث تحطم طائرته القادمة من باريس عندما كان قادما لرؤيتها. هذياناتها. تعرضها لحادث سير أدى إلى كسور في جسدها جعل منها مدمنة على المورفين الذين كان يستخدمه أطبائها لتسكين أوجاعها.. وأخيراً إصابتها بتشمع الكبد وشللها الجسدي والنفسي والعقلي ووفاتها. كل هذه الأحداث وغيرها يسردها داهان بأسلوب سينمائي عالي الحرفية, وبأسلوب تتخلله أغاني إيديث بياف الخالدة, ويعتمد تقنية الفلاش باك, ليقترح من خلاله مسيرة غير خطية للفيلم, تشكل فيها الذكريات والتداعيات الركنين الأهم في العملية السردية.
اللقطة السينمائية في الفيلم مأخوذة بعين فنان ماهر, يتيح لك أن تجعل من كل مشهد في الفيلم لوحة فنية تنتمي بحق إلى عالم الفن السابع. اللقطات القريبة على وجه إيديث الطفلة, ومشهد أخذها من الماخور, ومشهد سقوطها على المسرح, وغيرها تشهد ببراعة توظيف الكاميرا لدى دهان لإنتاج التأثير الأعظمي لدى المشاهد. لكن الأهم برأيي هو براعة كوتيلارد الفنية في التجسيد الميلودرامي لدور تلك المرأة النزقة والقلقة والمضطربة التي تجيش في أعماقها روح الفنان, ويشع من عينيها بريق المآسي التي لازمت حياتها منذ الطفولة.
الممثلة الفرنسية ماريون كوتيلارد (32 عاماً) لعبت دور إيديث بياف في هذا الفيلم بشكل مذهل وبالغ الإقناع وشديد الإحساس, دون أن نهضم طبعاً حق الطفلتين مانون تشيفالير وباولين بورليت اللتين لعبتا شخصية بياف في عمري الخمس والعشر سنوات على التوالي. ربما يتذكر البعض منا كوتيلارد في سلسلة أفلام تاكسي1 و2 و3. لكن هذا الفيلم بالنسبة لها يمثل بلا شك الفيلم الأهم في مسيرتها السينمائية, البالغة حتى الآن حوالي خمسة وعشرين فيلماً. فبالرغم من هذا العدد الجيد من الأفلام التي اشتركت بها إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تحظى بها بدور البطولة الرئيسية في فيلم ربما يكون من أهم الأفلام التي انتجت في السينما الفرنسية خلال العقد الأخير. دورها هذا لفت الأنظار إلى موهبتها العظيمة في كل أنحاء العالم, وجعل منها ممثلة ذات شأن كبير في عالم السينما, وقد نالت عليه ثلاثة جوائز كأفضل ممثلة في مجمع بوسطون للنقد السينمائي وفي لوس انجلوس وفي مهرجان الفيلم الرومانسي في كوبورغ. ومما لا شك فيه فإن اختيار داهان لهذه الممثلة ينم عن ذكاء بالغ وعين هي بالفعل عين رسام قبل أن تكون عين مخرج, فمن يعرف بياف من خلال صورها قبل الفيلم يكاد لا يشك للوهلة الأولى أن من تلعب الشخصية هي إيديث بياف نفسها, بجبينها البونابرتي, وعينيها اللتين كأنما لأعمى استعاد بصره للتو, ويديها اللتين كيدي حلزون الخرائب, تماما كما وصفها صديقها الكاتب الفرنسي الكبير جان كوكتو الذي توفي في نفس اليوم بعدما بلغه نبأ وفاتها في 11 تشرين أول 1963م.
عرض الفيلم لأول مرة في شهر شباط من العام 2007 في برلين, ثم عرض في آذار في هولندا, ليعرض بعدها في باقي أرجاء العالم وينال بالإضافة إلى جائزة الدب الذهبي في برلين, جائزة الفيلم الأوروبي عن أفضل فيلم وجائزة ستيلايت لأفضل مخرج, وهي ليست الجائزة الأولى التي ينالها داهان لأفضل مخرج فقد نال قبلها جائزة الصدفة الذهبية في مهرجان سان سيبيستيان العالمي للسينما عام 2002 عن فيلمه La Vie promise . صدرت النسخة الإنجليزية من فيلم الصبية في حزيران 2007 تحت عنوان "الحياة في الورد" La Vie En Rose.
"الصبية" هي قصة كنز وطني فرنسي حقيقي, أو لنقل قصة كنز عالمي, إنه قصة سيدة عظيمة وقصة إيمانها وألمها وشغفها, وكذلك بالطبع قصة الحب الملعون أحياناً, الذي غنّته دائماً.
ــــــــــــــــــــــــ

تمام التلاوي - جريدة أوان الكويتية 22/1/2008

ليست هناك تعليقات: