ثمانمئة شخصٍ تقريبًا حَضَروا أمسيةً شعريةً أقيمتْ في نيسان 2007 في نيويورك لبعض شعراء أميركا الجدد. نعم، ثمانمئة شخص! ومع هذا، تعلو أصواتُ شعرائها اليوم لربط الشعر الأميركي بالحياة الأميركية، وإدخالِ اللغة الشعرية إلى اللغة اليومية، وتزداد المنتدياتُ والجمعياتُ الشعريةُ سنةً بعد سنة. أما الشعر العربي فما يزال مشغولاً بنزاعاته الداخلية التي لم تتغيّر مَحاورُها منذ أكثر من خمسين سنة، ويزداد هو وشعراؤه ابتعادًا وعزلةً عن المتلقّي وعن الحياة العربية، ويقلّ تأثيرُه أو ينعدم في الإنسان العربي، ابتداءً بمضامينه الإنسانية وليس انتهاءً بلغته.
طوال العقود الأخيرة الماضية، ساهم الشعراءُ والنقّادُ العرب، والمنابرُ الإعلامية، يدًا بيدٍ مع الأنظمة الديكتاتورية، والعولمة، في إقصاء الشعر العربي عن الحياة العربية، إراديّاً أو لاإراديّاً، وبطرقٍ ووسائلَ عدّةٍ لا تقلّ قسوةً وفعّاليةً. وسنقوم في ما يلي باستعراض أدوارهم (الشرّيرة) هذه، بعد إيجازِ دورَي العامليْن الآخريْن ـ أي الأنظمة المذكورة والعولمة.
طوال العقود الأخيرة الماضية، ساهم الشعراءُ والنقّادُ العرب، والمنابرُ الإعلامية، يدًا بيدٍ مع الأنظمة الديكتاتورية، والعولمة، في إقصاء الشعر العربي عن الحياة العربية، إراديّاً أو لاإراديّاً، وبطرقٍ ووسائلَ عدّةٍ لا تقلّ قسوةً وفعّاليةً. وسنقوم في ما يلي باستعراض أدوارهم (الشرّيرة) هذه، بعد إيجازِ دورَي العامليْن الآخريْن ـ أي الأنظمة المذكورة والعولمة.
الأنظمة
إنّ الحروب المنظَّمة التي شنّتها الأنظمةُ على الثقافة والمثقفين المناوئين لها على امتداد نصف قرن، بالإضافة إلى ترويجها لمثقّفي السلطة الذين لا يجيدون فنَّ الكتابة أكثرَ مما يجيدون فنَّ غسيل سيّارات رجالاتها، خَلقتْ أزمةَ ثقافةٍ في العالم العربي، وجوّاً ملائمًا لنفور الإنسان العربي من الكُتّاب الرديئين والكِتاب الرديء. كما أنّ الحصار الذي ضربتْه السلطاتُ على المثقفين، بمنع سفر بعضِهم خارج أقطارهم، أو زجِّ بعضهم الآخر في السجون، قد ضاعف من قسوة الحدود السياسية بين البلدان ومن بُعدِ المسافات الجغرافية بينها. إلى ذلك يضاف حظرُ طباعة بعض الكتب، أو حظرُ تداول أخرى في بقية البلدان، ومنعُ دخول بعض المجلاّت الثقافية إلى بعض الدول (كمجلة الناقد مثلاً، وكان ذلك سببًا في توقّفها). فأدّى ذلك كلُّه إلى عزل الشعراء بعضِهم عن بعض وعن قرّائهم، وإلى إضعاف (أو إلغاء) تأثيرهم في المجتمع العربي. ولا ننسى أيضًا دورَ المناهج الدراسية الحكومية التي تربّي الناشئين على كراهية الشعر بسبب جفاف الموادّ الأدبية التي تقدَّم اليهم، أو تُربّي لاوعيَهم على أنّ الشعر حالةٌ تراثيةٌ ابتدأتْ بامرئ القيس وانتهت في أحسن الأحوال عند السيّاب أو نزار قبّاني... ومن دون أن يفوتَ تلك المناهجَ الإلماعُ إلى أنّ الشعر الحديث في الغالب مُروقٌ، وعصيانٌ، وخروجٌ على الأمة، وموالاةٌ للإمبريالية العالمية، أو ترويجٌ للإباحية والزندقة، كما هو الحال في بعض الدول.
العولمة
قَدّمت العولمةُ أدواتِ الترفيه الثقافي الاستهلاكي الذي يُعنى بالثقافة البصرية السطحية في الدرجة الأولى، ويبتعد عن المضامين الإنسانية، ويحاول محوَ الثقافات الصغيرة على حساب الثقافة الشمولية الجديدة والطاغية. وفيما تقدِّم العولمةُ ذلك، انحسرتْ شيئًا فشيئًا الأدواتُ الثقافيةُ التقليدية، وعلى رأسها الشعرُ، حتى يكاد أن يقتصر استعمالهُا على الشعراء أنفسهم وعلى القلّة القليلة من المهتمّين بالشأن الثقافي.
أما الشبكة الالكترونية التي دخلتْ كلَّ منزل، فما زال الشعرُ العربي فيها مقتصرًا على بعض المواقع والمنتديات المبعثرة. وغالبيةُ هذه تفتقر إلى التنظيم والتنسيق فيما بينها، أو إلى الموضوعية في اختيار الموادّ. وما زالت عاجزةً عن خلق تياراتٍ شعريةٍ معينة، أو تكريسِ ظاهرةٍ شعريةٍ تعيد إلى الشعر رونقَه بوصفه فنّاً ضروريّاً لحياة الإنسان العربي، لا ترفًا ينحصر بالشعراء الذين ضاقت بهم وسائلُ النشر الورقية وهَجَرَتهم الجماهيرُ فوجدوا في الشبكة الإلكترونية مساحةً شاسعةً للكتابة... ولكنْ من دون أن يقرأها أحدٌ بالضرورة!
الشعراء والنقّاد
أما الشعراء الذين يَتْبعهم الغاوون، فلم يعد يَتْبعهم أحدٌ، وأصبحوا هم الغاوين أنفسَهم: يسيرون على غير هدًى هنا وهناك، بحثًا عن منبرٍ ثقافيّ يَعْتلونه، أو دارِ نشرٍ تُوافق على نشر كتاباتهم (ولو على حسابهم الشخصي)، أو شخصٍ واحدٍ أحيانًا يستمع إليهم. كثيرًا ما يَصْطدمون في الحياة الواقعية بجُملٍ جارحةٍ مثل: "أنا لا أحبّ من الشعر إلاّ قديمَه"؛ أو: "عفوًا، أنا لا أفهم الشعرَ الحديث"؛ أو: "ما هذه الخزعبلات التي تكتبونها؟ أما زال هناك مَن يهتمّ بهذه الأشياء؟!"
والحقّ أنّ مبالغةَ بعض الشعراء في استخدام الرموز أو الصور التجريدية ـ خوفًا من السلطات أو لنقصٍ في الموهبة حاولوا تعويضَه بجعل نصوصهم عبارةً عن شفرات لا حلّ لها ـ لعبتْ دورًا أساسًا في إغلاق النصوص إغلاقًا تامّاً في وجه القرّاء، الأمرُ الذي جعل الغموضَ هو السمةَ الرئيسةَ التي أُشيعتْ عن الشعر العربي الحديث، وَحَدا بالكثيرين إلى اتّقاء شرِّ قراءته. وفي المقابل، سادت موجةٌ من شعراء "الشعر الشفوي،" الذي لحق به الكثيرُ من اللاشعر القائم على الوصف المباشر لنثريّات الحياة، من دون امتلاكه الحدَّ الأدنى من جوهر الجماليّة الشعرية.
كما أَنتجت الحركاتُ الثوريةُ والفكريةُ العربيةُ بين الخمسينيات والسبعينيات أجيالاً من الشعراء والمثقفين الذين تسربلوا بأردية التقشّف والتسكّع على أرصفة الليل الماطرة، وما برحوا يقترضون المالَ ممّن حَوْلهم لشراء الطعام والشراب (حتى لم يعد أحدٌ يقْرضهم لعدم سدادهم إيّاه)، ولم يَتْركوا منزلاً إلاّ ناموا فيه لأن لا مأوى لهم، وتبنّوا بعضَ القيم "الغربية" بصورةٍ خاطئةٍ حتى أصبحوا مثالاً للإباحية. وتحوّلتْ صورةُ الشاعر العربي، الذي كان في يومٍ من الأيام أشبهَ بنبيّ، إلى صورة ذلك الصعلوكِ المفلسِ المتشرِّدِ الذي نَبَذَه الأقربون ونَفَرَ منه الأبعدون.
وعلى امتداد نصف قرن، لم يتزحزحْ جدلُ غالبية هؤلاء الشعراء والمثقفين عن المواضيع ذاتها. فما زلنا، كلّما دخلْنا على مجموعةٍ منهم، نستمع إلى الجدل عينه: حول دور الشعر، وشرعيةِ قصيدة النثر، وأيّهما أكثرُ حداثةً (هي أمْ قصيدة التفعيلة)، وحول القصيدة اليومية، وحول محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس وإيف بونفوا وبودلير وسوزان برنار وغيرِها من الأسماء التي تكرّرتْ حتى حَسِبْنا أنّ الشعر توقَّفَ عندها... ناهيكم طبعًا بمواضيع النميمة المعتادة حول "الشعراء الأعداء" أيّاً كانوا، لضغينةٍ أو حسدٍ يحملهما أحدُهم على الآخر، أو بسبب العصبية الثقافية المتطرّفة. ولعلّ آخرَ ما يهمّ الشاعرَ منهم هو بذلُ الجهد لكتابة نصٍّ إبداعيٍّ جديدٍ فعلاً، أو لتعلُّمِ بعض قواعد النحو الأساسية التي تُعْوز بعضَهم، بل لقراءة ديوانٍ لأحد الشعراء قبل أن ينهالَ عليه بالمدح أو الذمّ لهذا السبب أو ذاك!
كما أنّ شيوعَ قصيدة النثر، كما هو معروف، أدّى إلى الاستسهال، وجَعَلَ كلَّ مَن هَبَّ ودَبَّ جريئًا على امتشاق قلمه وكتابة قصيدة، من دون أن يكون بالضرورة ملمّاً بأضعف الإيمان الشعري، وربما لم يقرأْ كتابًا إلى نهايته في حياته. لستُ بالطبع ضدّ قصيدة النثر، غير أنني أوصِّف ظاهرةً كان لا مناص من نشوئها، تمامًا كالتأثير الجانبي المصاحِب لأيّ دواءٍ فعّال؛ وهناك مقولةٌ في الطبّ مفادُها أنّ الدواء الذي لا ثأثيرات جانبية له لا تأثيرات له على الإطلاق.
أما النقّاد ـ على ندرتهم ـ فأنواع. منهم المنحازون إلى ما يوافق ميولَهم الشعريةَ والفكرية. ومنهم مَن يخشى إنْ كَتَبَ عن زيْدٍ ألاّ يَنْشر له عمرو في "صفحته" الثقافية. ومنهم مَن كَتب عن كتابِ زيْد كي يَكتب زيْدٌ عن كتابه. ومنهم مَن اعتزل النقدَ ولم يرَ ما يشجِّعه على الاستمرار في ظلّ حركةٍ شعريةٍ مضطربة، وحالةٍ ثقافيةٍ راكدة، ولكثرةِ ما رأى من الرداءة الشعرية المنشورة هنا وهناك لأسبابٍ سأذكرها تاليًا. ومنهم مَن اقتصرتْ دراساتُه النقديةُ على الأصوات الشعرية الكبيرة، التي أصيبت بالتخمة من كثرةِ ما كُتب عنها، وذلك ليقي نفسَه مشقّةَ البحث عن ناشرٍ يجازف بنشر دراسةٍ نقديةٍ عن صوتٍ لم يَسمعْ به أحد. أما "الموضوعية" فهي قد تكون مصطلحًا لم تسمعْ به الأغلبية.
المنابر الإعلامية
إنّ صورة الواقع الإعلامي الثقافي العربي اليوم ما هي إلاّ استمرارٌ ـ معدَّلٌ قليلاً ـ لذلك الواقع في العقود الأخيرة الماضية. وإنّ المنابر الثقافية المقروءة والمسموعة والمرئيّة كانت وما تزال منقسمةً إلى نوعين رئيسين. يشمل الأول المنابرَ الحكوميةَ، التي جَمعتْ مِن حولها مَن قَنِعوا بفتات المناصب والرواتب أو المنح الحكومية، من دون أن يكونوا بالضرورة على علاقةٍ وثيقةٍ بالأدب. فتقوقعتْ تلك المؤسساتُ على نفسها، وتحجّرتْ، حتى أصبحتْ في حاجة ماسّة إلى علماءِ أركيولوجيا قادرين على نبش هذا الركام من الكتب والصحف والأمسيات والمهرجانات التي ما دخلها عابرٌ مصادفةً إلاّ ظنّ نفسَه في متحفٍ للضجيج. أما النوع الثاني فقد شمل بعضَ المنابر الورقية التي تزعّمها بعضُ الشعراء الذين انحازوا إلى مَن يشابهونهم في الميول والأهواء الشعرية والفكرية والسياسية، فأدّى ذلك لاحقًا إلى المحسوبيات والتبعيات، وأصبح كلُّ شاعر تقريبًا محسوبًا على زمرةٍ ما أو صحيفةٍ ما. وهكذا خرجت الأمورُ عن معايير النشر الراقية التي تتوخّى جودةَ النصّ والموهبة، وأصبحتْ هنالك معاييرُ مغايرةٌ تعنى بنوع النصّ (أموزونٌ هو أمْ نثريّ؟)، أو باسم الكاتب (أمعروفٌ هو أمْ مغمور؟)، أو بصلة المحرِّر أو النظام الحاكم بالكاتب (أصديقٌ هو أمْ عدوّ؟). وهي معاييرُ لم تخلُ في كثير من الأحيان من النفَس الديكتاتوري الذي تَعلّمه متزعِّمو تلك المنابر من أنظمتهم في إقصاء الآخر أو إلغائه وفي إنشاء التحالفات والائتلافات (التي غالبًا ما تتمركز حول مَن اعتلَوْا سدّةَ رئاسة التحرير في جريدةٍ أو مجلةٍ ثقافيةٍ ما، أو من نُصِّبوا على عرشِ منبرٍ ثقافيّ ما أو اتحادِ كتّابٍ ما، إمّا بانقلابٍ ثقافي أو بالاستعانة بقوات حكومية حليفة). وهذا كلُّه بالطبع أدّى إلى ظهور (أو إظهار) نصوصٍ رديئةٍ ساهمتْ في نفور القارئ العربي من الشعر شيئًا فشيئًا، وعلى امتداد سنواتِ مطالعته لما يُنشر في الصفحات الثقافية.
إذن؟
إذن، فالأزمة ليست أزمةَ موهبة كما صرّح محمود درويش مرةً؛ فالموهوبون كانوا وما زالوا موجودين، ولكنهم قليلون، كما هو الحال دائمًا. بل إنّ الأزمة هي أزمةُ الواقع الشعري عمومًا: بدءًا بالأنظمة، ومرورًا بالنقّاد والناشرين، وانتهاءً بالشعراء أنفسهم. ومن المؤسف حقّاً أنّكَ عندما تسأل إنسانًا عربيّاً أنْ يَذكر اسمَ شاعرٍ معاصر، فإنّ أصغرَ مَن يذكرهم سنّاً هو نزار قبّاني أو السيّاب، وربما يذكر أدونيس إنْ كان مطّلعًا قليلاً، أو محمود درويش إنْ كان يستمع إلى مارسيل خليفة أو ماجدة الرومي. إنّ هذه الحالة من فكّ الارتباط بين الشعر العربي والإنسان العربي أدّت إلى سحق أسماءٍ أو أجيالٍ شعريةٍ بكاملها، وإلى تغييب مواهبَ كبيرةٍ ورائعةٍ، خصوصًا في أواخر السبعينيات والثمانينيات والتسعينات... والدورُ على مَن تلاهم.
وأنا، إذ أَصِفُ في مقالي هذا النصفَ الفارغَ من الكأس، فلكي أحمِّلَ الشعراءَ بالدرجة الأولى (ولا أستثني نفسي) نصفَ المسؤولية في ما يحصل، ولكي ألتمسَ منهم وضعَ أصابعهم الرقيقةِ والفائقةِ الجمال على مواضع الألم الشعري. فلعلّنا بذلك نصل إلى تشخيصٍ دقيقٍ لحالةٍ ليست عصيّةً على العلاج... وخصوصًا بعد توفّر التجربة التي مرّت في العقود الماضية، وبعد استحداث وسائلَ جديدةٍ للإعلام والاتصال والنشر أدّت إلى قطع الأسلاك الشائكة بينهم وفتحت الأبوابَ أمامهم لخياراتٍ جديدةٍ في الكتابة والنشر والاطّلاع على حدّ سواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمام التلاوي - المقالة منشورة في مجلة الآداب - 9 تموز 2008